في كأس العالم الأخيرة بدولة قطر الشقيقة، شاركتُ رفقة مجموعة من الأصدقاء في برنامج تلفزي بعنوان: “كلنا مغاربة”، على ضوء مشاركة منتخب المغرب في البطولة. وهو البرنامج الذي حقق نجاحا مهما، وسجل نسبة مشاهدات عالية وغير مألوفة كثيرا في البرامج التلفزيونية. وهو الأمر الذي جعل المسؤولين عن البرنامج يقررون إنتاج نسخة ثانية منه، وذلك من خلال يوميات كأس أمم أفريقيا التي قُرر لها أن تُقام في دولة ساحل العاج، وقد وافقت على اتفاق المشاركة في محتواه مرة أخرى دون تردد، بفضل التجربة الأولى الناجحة بكل المقاييس؛ إذ جعلتني أعيش تفاصيل التجربة المغربية في الملاعب القطرية بكل تفاصيلها الجميلة، وكنتُ شاهداً عليها، كما حاولتُ توثيقها أهم لحظاتها ودروسها من خلال كتابي المعنون: للعلى سعيا.
مرت سنة كاملة على تجربة كأس العالم في قطر كلمح البصر، لتحل الدورة الرابعة والثلاثين من كأس أمم أفريقيا 2023 التي تُقام على الأراضي العاجية في بداية 2024. وفي هذا السياق، كانت رحلتي إلى ساحل العاج، في تحدٍّ جديد، وتجربة تعد بالكثير، رغم أنها تأتي في سياق دولي خاص، يتعرض فيه سكان قطاع غزة لجرائم وحشية على يد قوات الاحتلال الصهيوني. وهو ما جعلني أفكر مليّاً قبل الإقدام على هذه الخطوة؛ لقد كنتُ أسيرا لشعورين متناقضين، فمن جهة، ما تزال ذكريات المونديال القطري تُلقي بظلالها عليّ، وتثير لدي مشاعر الفضول والشغف لتكرار التجربة؛ ومن جهة ثانية أتابع كل يوم ما يتعرض له إخواني في قطاع غزة، وأُدرك جيدا حجم المآسي والمعانات التي يعيشونها، فلم تكن نفسي تطاوعني لأتجاهل ذلك كله وأذهب في جولة سياحية، أفرح فيها وأمرح، بينما الآلاف من الأبرياء يُقتلون ويُجوّعون في قطاع غزة، لاسيما وأنني من أشد المرتبطين بقضية فلسطين، ولا أتوقف عن الحديث عنها ومحاولة الإسهام في حفظها حيةً في نفوس الناس، بعد محاولات جعلها أمرا منسيا بالنسبة لشعوبنا.
لأجل ذلك، كنتُ مترددا للغاية في قرار الذهاب من عدمه، وكنت أبحث عن أسباب تُقنعني بالذهاب، دون أن أستشعر أنني أخون القضية وإخواني في القطاع. وكان من بين العلل التي حاولتُ أن أقنع بها نفسي أن مدة تواجدي في ساحل العاج ستكون فرصة مواتية للقراءة أكثر عن القضية ومتابعة جديدها، والإنصات ومتابعة أهم ما أنتج حولها من البودكاست والأفلام الوثائقية والمحاضرات وغير ذلك. وذلك أمر لا أجد له الوقت الكافي في المغرب، بحكم التزاماتي المهنية المتشعبة والكثيرة. وفكرت كذلك في أنني قد أستطيع التوعية بالقضية في الأدغال الأفريقية، وألفت أنظار الأفارقة الذين يحضرون كأس أفريقيا إليها، بالحديث إليهم عنها، والتزام لبس الكوفية الفلسطينية في الملاعب.
فضلا عن أن الالتزام مع قناة ميدي1 تيفي، كان سابقا على طوفان الأقصى وما تلاه من جرائم إسرائيلية على القطاع. ولم يكن بإمكاني الإخلال بهذا الالتزام بسهولة.
نعم، من الوارد أن يكون كل ما سبق مجرد محاولة لاواعية مني لجعل ذهابي إلى ساحل العاج لا يصطدم بقناعاتي وإيماني، وقد لا يعدو أن يكون بحثا عن مسوغ أخلاقي يجعل التجربة لا تثير عندي أسئلة أخلاقية ذاتية، وهو أمر لا يمكنني أن أؤكده ولا أن أنفيه. لكن ما يسهل تأكيده هو أن رغبتي في التعرف على بلدان القارة الأفريقية واستكشافها، خاصة بلدان جنوب الصحراء هي رغبة أصيلة لا تشوب صفاءها أية شائبة.
ومهما يكن، فقد كان القرار في النهاية أنني سأذهب إلى ساحل العاج، لكن لمدة خمسة عشر يوما، عوضا عن الشهر. وهو الامر الذي وقع بالفعل.
كانت الانطلاقة من مطار الدار البيضاء إلى أبيدجان في رحلة استغرقت أربع ساعات ونصف. وكانت أولى ملاحظاتي، التي قد تكون من أهم أسباب عدم إقبال المغاربة على زيارة الدول الأفريقية، هو غلاء التذاكر، بحيث إن ثمن تذكرة الطائرة ذهابا وإيابا يبلغ اثني عشر ألف درهم، وهو مبلغ كبير بالقياس إلى المدة التي تستغرقها الرحلة. وبمجرد أن تطأ قدماك أرض أبيدجان، ستبدأ في الانتباه إلى بعض ما يذكرك بالمغرب، نظرا لوجود استثمارات مغربية مهمة في هذه الدولة، حتى أن شريحة الهاتف التي اشتريتها مباشرة بعد وصولنا كانت تحمل اسم Mov africa، وهو الاسم التجاري لفرع شركة اتصالات المغرب هناك، وهي تحمل نفس الشعار المعروف هنا في المغرب، كما ستلاحظ أن معظم البنوك المغربية لها فروع هناك، فضلا عن استثمارات مغربية كبيرة في جل القطاعات.
ولا شك أنه أمر مفرح أن نرى مثل هذا التوسع الاقتصادي للمغرب في القارة الإفريقية، الذي بفضله أصبح المغرب منافسا اقتصاديا قويا لفرنسا في افريقيا، وهو ــ المغرب ــ خامس أقوى اقتصاد في القارة.
وساحل العاج باعتبارها من دول الغرب الأفريقي، تعتمد فرنك الغرب الإفريقي المشهورة بالفرنسية اختصارا بــ CFA عملة رسمية لها، وهي عملة سبق لي التعامل بها في تجربة مهنية سابقة في السنغال وغينيا كوناكري. غير أنني حينها لم أعر لها اهتماما كبيرا، ولم أبحث فيها، ولم يكن لي علم باعتمادها عملة رسمية في دول أخرى. فهذه العملة تعتمدها بعض الدول المنضوية في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، المعروفة اختصارا بــ
La Communauté économique des Etats de l’Afrique de l’Ouest (CEDEAO)
بالفرنسية أو
The Economic Community of West African States (ECOWAS)
إيكواس بالإنجليزية. وهو تكتل سياسي واقتصادي يضم دول غرب أفريقيا، وهي البنين وساحل العاج والتوغو والسنغال وغينيا كوناكري وغينيا بيساو وغانا ونيجيريا وغامبيا والرأس الأخضر وليبيريا ومالي وسيراليون وبوركينا فاسو والنيجر، قبل أن تنسحب منه ثلاثة دول في بداية هذه السنة، بعد الانقلابات العسكرية في الآونة الأخيرة، وهي النيجر ومالي وبوركينا فاسو.
وأما الدول التي تعتمد هذه العملة على وجه الخصوص فهي: البنين وبوركينا فاسو وساحل العاج وغنيا بيساو ومالي والنيجر والسنغال والتوجو، والكاميرون وأفريقيا الوسطى والكونغو والغابون وغينيا وجزر القمر وتشاد. والفرنك غرب الأفريقي يعتبر عملة استعمارية، بل هو آخر عملة استعمارية في العالم. ولذلك لا يحمل رمز الدولة أو شعارها، بل كُتب عليه اسم البنك المركزي لدول الغربي الأفريقي، كما أنها عملة لا تُطبع داخل هذه الدول، بل تُطبع، وبكل أسف، في فرنسا. وكانت هذه العملة لا تحوّل إلا إلى الفرنك الفرنسي، وأصبحت منذ 1990 لا تحوَّل إلا إلى الأورو. وبعبارة أخرى، فإن الفرنك الغرب الإفريقي هو عملة يتم ضربها وسكها في فرنسا، ويتم التحكم فيها في فرنسا، وأي مستثمر أجنبي عليه أن يحوّل أمواله إلى اليورو، ليستطيع بعد ذلك صرفها إلى عملة فرنك الغرب الأفريقي.
والأدهى والأمرُّ أن فرنسا تُلزم الدول المذكورة بأن تدخر خمسين في المائة من احتياطها النقدي الأجنبي وجميع احتياطياتها من الذهب في فرنسا. وهو ما جعل فرنسا، الدولة التي لا تملك أي منجم للذهب، تملك في حوزتها ما يزيد على 2436 طن من الذهب، في حين أن جمهورية مالي التي تحتوي على 860 منجما للذهب لا تملك أي احتياطي من الذهب داخل أراضيها. وهذا الذي يجعل فرنسا في المرتبة الرابعة عالميا من حيث احتياطي الذهب، بعد أمريكا وألمانيا وإيطاليا.
ذلك مظهر من المظاهر التي تَسُوءُ كل زائر إفريقي لهذه الدول؛ أعني مظهر الاستعمار الاقتصادي الذي ما زالت تعاني منها دول القارة، ومظهر التبعية في اتخاذ القرار، تبعية تَحول دون أي حلم في النهضة والإقلاع الحضاري. وفي ظل هذا الوضع، فإن كل رئيس أفريقي من رؤساء الدول المذكورة، أراد أن يثور على هذه المنظومة الاستعمارية، وأن يَدفع ببلاده إلى التحرر السياسي والإقلاع الاقتصادي إلا ويَلقى حتفَه بشكل من الأشكال، إما بالتصفية الجسدية، أو بترتيب انقلابات عسكرية عليه، تضع حدا لمساره السياسي.
وكي لا أطيل في هذا الاستطراد، فإن مجيئي إلى ساحل العاج أعادني إلى تجارب سابقة في دول أفريقية أخرى، وخاصة في الكونغو والسنغال وغينيا والرأس الأخضر، وجعلني أكتشف دولة أخرى، هي أحسن حالا بقليل من تلك الدول من حيث اقتصادها وظروف العيش فيها. وهي تعتبر ثاني اقتصاد في مجموعة دول غرب أفريقيا.
دولة يمكن اعتبارها من الدول التقليدية في القارة، معروفة لدى معظم شعوب القارة والعالم، تعود تسميتها إلى الفترة الممتدة ما بين الخامس عشر والسابع عشر الميلادي حيث كانت معروفة ورائدة في تجارة العاج. وهي من جهة أخرى، معروفة بإنتاجها للكاكاو، إذ تعتبر أول منتج عالمي في الكاكاو. ولا شك أن شهرتها ستزداد بعد استضافتها لهذه الدورة من كأس أمم أفريقيا 2023.
وختاما، فإنني أعي جيدا أن تجربة مونديال قطر هي الأصل، وأن كل محاولة أخرى ستكون نسخةً عنها، واسترجاعا لها. والقاعدة أن الأصل يظل أصيلا، والفرع يبقى تابعاً. وقد لا يكون من الحكمة أن نبحث في تجربة ما عن تجربة سابقة؛ لأن لكل تجربة خصوصياتها وفرادتها. غير أنه، على ما يبدو، أننا لم نستفق بعدُ من سُكر التجربة القطرية، وما زلنا أسرى لها. ولستُ أدري إلى حدٍّ ستكون هذه التجربة ناجحة، ولا إلى أي حد وُفقت في قرار القدوم إلى هنا؛ لكنني هنا على كل حال، في ساحل العاج، بعد أن أقنعتُ نفسي بموجبات ترجيح القدوم إلى هنا.