سبق لنا في مقالات سابقة أن تحدثنا عن نشأة دولة إسرائيل ودوافع إنباتها في المنطقة، والسياق والبواعث التي كانت وراء ذلك، والأدوار التي تلعبها، والتطور الذي حصل في كل ذلك. وسنتحدث في هذه المقالة عن الدعم الأمريكي لهذا الكيان، والعوامل التي تُسهم فيه. فمنذ بدء العدوان على غزة، على إثر العملية الناجحة لطوفان الأقصى، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو قديم، يوثق لتصريح للرئيس الأمريكي في شبابه يتحدث فيه عن نشأة إسرائيل، وورد على لسانه فيه قوله بالحرف: “لو لم تكن إسرائيل موجودة، لأوجدناها”. وهو تصريح على الرغم من صُدْفيته وعَرَضيته، إلا أنه يقول الكثير عن علاقة أمريكا بإسرائيل، بل وعن حاجة أمريكا لإسرائيل، لأن عبارة “لأوجدناها”، توحي بأن الوجود الإسرائيلي هو ضروري بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.
وبعد مرور عدة عقود على ذلك التصريح، سُئل بايدن بعد اندلاع الحرب الجارية عن هذا الفيديو وعما إذا كانت قناعته قد تغيرت، فكرر مقولته، وأكد أنه ما زال يؤمن ويعتقد صحة مضمون تصريحه، وأنه على الرغم من مرور هذه السنوات كلها فما زالت قناعته لم تتغير، بل أضاف بوقاحة وتحدي: “أنه صهيوني”، بنبرة تُومئ بأن هذا الأمر ليس بسرٍّ حتى يكون موضع تساؤل أو استغراب.
وإذا امتنع عليها القول بأن للحرب حسنات، فمن الجائز أن نعتبر أن لها أعراضا جانبية قد تكون إيجابية، ومن ذلك أنها أزالت الغشاوة عن أعين الكثير من الناس، وأزالت اللثام عن الكثير من القضايا المغيبة عن تفكيرنا. إن العدوان الجديد والمستمر على غزة لحدود كتابة هذه الأسطر جعلنا نستشعر بعض الأمور التي لم نكن نعيرها اهتماما كبيرا، ونُقبل على التفكير فيها، ومحاولة فهمها بجدية. فمع انتشار ثقافة البودكاست، كان من المهم أن يتم تسليط الضوء على جوانب مختلفة من القضية الفلسطينية مع كثير من المفكرين والباحثين العرب والمسلمين. وقد كان ذلك مناسبةً لأتابع بعضا من هذه اللقاءات الحوارية، كلقاءات وضاح خنفر ومحمد المختار الشنقيطي وسامي العريان وغيرهم، والذين فسروا بالكثير من التدقيق والوضوح طبيعة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية والدعم اللامشروط للكيان.
ويمكنني القول بأن كل التفسيرات المقدمة في هذا الصدد ترجع إلى أمر واحد، وهو أن بلاد العم سام التي يديرها بايدن بصعوبة تسعى جاهدة لأن تظل القوة الوحيدة المهيمنة والمسيطرة على العالم، ولا تسمح لأية قوة أخرى أن تحاول أن تهيمن أو أن تتوسع في محيطها، فضلا عن أن تكون مهيمنة على العالم بالفعل.
ولهذا السبب، واجهت روسيا بحلف الناتو، لتمنعها من التوسع في أوروبا، وأحاطت الصين بالقواعد العسكرية في كل الدول المجاورة لها، وحاولت أن تُدخل إليها العولمة والرأسمالية، لكنها فشلت في ذلك، في الوقت الذي تحقق فيه الصين نجاحات مطردة في علاقتها الاقتصادية بأمريكا؛ إذ في سنة 1992 كان الاقتصاد الصيني يشكل 7 في المائة من الاقتصاد الأمريكي في حين أنه شكل في سنة 2023 ما نسبته 70 في المائة من الاقتصاد الأمريكي. وهي – أي الصين – رغم انخراطها في الاقتصاد العالمي، إلا أنها حافظت على استقلالها الاقتصادي، بل يُتنبأ بأن تكون القوة الاقتصادية الأولى في قادم السنوات.
على أنه بالرغم من ذلك، فإن الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، رغم محاولات روسيا والصين الدؤوبة، تظل هي القطب الأهم في العالم، وقد استطاعت السيطرة على منابع النفط، فضلا عن فرض بيعه بالدولار الأمريكي، وهو ما أدى إلى صمود قيمة الدولار، رغم المديونية الكبيرة للولايات المتحدة الأمريكية.
وتبقى إسرائيل من أهم الوسائل التي تستعملها الولايات المتحدة لفرض هيمنتها على جزء مهم من العالم، وهي منطقة الشرق الأوسط، التي تتمركز فيه أهم الموارد الطبيعية في العالم. ومن أهم النتائج التي حققتها الولايات المتحدة بواسطة إسرائيل هو التضييق على الوجود الإيراني في المنطقة، ومنعه من التوسع فيها. فبالدعم الأمريكي اللامشروط لهذا الكيان، أصبح حارسا على منابع النفط في المنطقة، وحاجزا للتوسع الإيراني، وأزال بذلك عبئا كبيرا عن أمريكا، لتتفرغ إلى روسيا والصين، وبعض الدول المزعجة الأخرى.
ويمكنني القول بأن أية رؤية متعمقة لموضوع اليهودية واليهود ووضعهم الحالي في دولة إسرائيل، لا يمكنها إلا أن تخلص إلى أن الغرب استطاع القضاء على اليهودية باعتبارها دينا رساليا، وحولها إلى مجرد إثنية، وجماعة وظيفية تخدم مصالح الغرب، وأننا لو التمسنا في التاريخ العصور الذهبية لليهود، فلن نعثر عليها سوى في تلك التي عاشوها في كنف الإسلام، واستطاعوا الحفاظ على ديانتهم فيها، وأتيحت لهم حرية العبادة وحرية التجارة والملكية، وأما ما عاشوه في أوروبا فليس سوى الاضطهاد تلو الاضطهاد، وأشهرها ما وقع في الأندلس أثناء طرد المسلمين منها، وما حدث لهم في القرن الماضي في ألمانيا النازية. وهو ما أفقدهم القدرة على الحفاظ على صفاء هذه الديانة، بعد أن تم تحويلها إلى يهودية متصهينة، وهو التوجه الذي زاد تطرفا بالدعم الأمريكي من طرف المسيحيين المتصهينين، الذين ينتمي إليهم الرئيس الأمريكي الحالي. فتحولت اليهودية من ديانة مقدسة، إلى حركة راديكالية بغطاء ديني.
وبالرجوع إلى موقف أمريكا من العدوان الحالي للكيان على أبرياء غزة، فنستنتج أمرا واحدا هو أن أي شيء يمس بالمصالح الأمريكية في المنطقة فيعني عقابا شديدا من أمريكا، والوجود الإسرائيلي كما قلنا سابقا هو مصلحة أمريكية استراتيجية. وقد جعلت أحداث السابع من أكتوبر القناعة الموهومة بأن جيش إسرائيل لا يُقهر، تتهدم، وبعثت الأمل في القوى المتواجدة في المنطقة بأن المواجهة ممكنة، وأن هذا الجيش المزعوم عدم قابليته للهزيمة، يمكن أن يُهزَم. وهو ما أضر بأمريكا، فقررت أن تعاقب الجميع، وكأنها ترسل رسالة مفادها أن هذا الجزاء سيناله كلُّ من يفكر ضدًّا على المصالح الأمريكية. طبعا لا ننسى أن الشعب اليهودي في إسرائيل يبارك حرب الإبادة على غزة، وكذلك النخبة الأمريكية المرتبطة بالفكر الصهيوني.
وبالإضافة إلى ما سبق، فإن الوجود الإسرائيلي وما يستتبعه من دعم أمريكي غير مشروط، يتقوى بأمر آخر، وهو صيرورته جزءا من سردية دينية مسيحية؛ ذلك أن المسيحية الصهيونية، والتي باتت لها قيمة استراتيجية منذ الثمانينات، بعد صعود رونالد ريغان وتحولها إلى فاعل انتخابي مهم، أصبحت ترى وجود إسرائيل جزءا من نهاية الكون، وأن المسيح لن ينزل إلا بوجود إسرائيل، وهذا يبرر التأييد الكبير لإسرائيل ولحربها على غزة، لأن وجودها صار جزءا من سردية دينية معينة. طبعا ينضاف إلى ذلك تأثير اللوبي الصهيوني بأمريكا، والذي يحمل مشروعا واحدا ويدافع عنه بشراسة، وهو الدعم اللامشروط لإسرائيل؛ فالوجود اليهودي المتنفذ في أمريكا، في كل الإدارات والمؤسسات الاستراتيجية في الاقتصاد والجيش والسياسة والإعلام والسينما والجامعات، له تأثير كبير على السياسات المتخذة. وتبرز قوة هذا اللوبي اليهودي في الحملات الانتخابية، ذلك أن حجم الأموال التي يتم ضخها في الحزبين الديمقراطي والجمهوري نسبة منها تتراوح ما بين 50% و75% تأتي من مصادر يهودية صهيونية، علما أنهم لا يشكلون إلا %2,5 من الشعب الأمريكي، دون إغفال تأثير التبرعات التي يُغدقونها على الجامعات الأمريكية لتدافع عن أطروحاتهم بلبوس علمي.
ولعل هذا التأثير الذي يمارسه اللوبي الصهيوني برز بشكل واضح في حدث ذي دلالة قوية، وقع في الآونة الأخيرة، وهو أن رئيسة جامعة بنسلافينيا وجدت نفسها مضطرة إلى تقديم الاستقالة من منصبها، لا لشيء إلا لأنها عندما سئلت عن عبارة: “فلسطين حرة من النهر إلى البحر”، هل تعني إبادة اليهود؛ أجابت قائلة ما مفاده أنه: “لا ينبغي أن نفهم الأمور بهذا التبسيط، بل علينا أن نضع الأمور دائما في سياقها”. وهو كلام عامّ يصح إسقاطه على كل الحالات، إذ دائما ما يجب وضع الأمور في سياقها، وعدم تبسيطها بشكل مخل. لكنه على إثر هذا التصريح، ضغط أحد المتبرعين، وهدد بسحب مائة مليون دولار من تبرعاته للجامعة إن لم تعتذر الرئيسة المذكورة عن تصريحها، فتم الضغط عليها للاستقالة حتى لا تفقد الجامعة المذكورة مبلغ مائة مليون دولار من مداخلها من التبرعات. ومؤدى ذلك أن الجامعات الأمريكية التي تعتمد في ميزانيتها على التبرعات، تصبح بدورها أداة في يد الصهاينة، ويضغطون لتدافع عن أطروحة وجوب دعم إسرائيل، واعتبارها من بين الأهداف الأمريكية الاستراتيجية الكبرى في السياسة الخارجية.
وهذه المعطيات كلها تفسر لماذا استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنة 1973 إلى 2023 حق النقض/ الفيتو في مجلس الأمن لستٍ وعشرين مرة، من أصل خمسة وثمانين، وكانت كلها من أجل حماية إسرائيل. ولا يختلف هذا الأمر باختلاف الحزب الحاكم، بل الدعم اللامشروط لإسرائيل هو إجماع أمريكي لا يُخرم، ويدل على ذلك أن كل الرؤساء الذين تعاقبوا على البيت الأبيض منذ 1973 وإلى اليوم، استعملوا حق الفيتو في ارتباط بحماية إسرائيل وإفشال قرارات مجلس الأمن الموجهة ضدها. بل إن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تضع لها أمريكا خطة عشرية للمساعدات، أي يتم وضع مخطط لعشر سنوات لمساعدة إسرائيل، يتجدد كل عام، ويُعدل بحسب الأحوال والطوارئ. وهذا يؤكد ما قلناه من كون الوجود الإسرائيلي مصلحة استراتيجية أمريكية، وطبيعي أن تكون لدى أمريكا قابليةُ فعلِ أي شيء من أجل الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية.
نعم، هذا الإجماع الأمريكي الممتد يواجه تحديا اليوم، يتمثل في سهولة الوصول للمعلومة، وصعوبة تضليل الناس، وتغييب المعلومة الصحيحة عنهم. ولعله يمكن القول بأن هناك أزمة عامة بين الجيل الجديد وبين الجيل القديم في الدول الغربية؛ فمواقع التواصل الاجتماعي استطاعت أن تبرز الكثير من الحقائق التي لا تعرفها الشعوب الغربية، وهو ما أدى إلى تزعزع ولائها أو تقبل للسياسات الغربية في المنطقة. ويتجلى ذلك فيما رأيناه في تظاهرات لندن الحاشدة، وهو ما يُنبئ ببدء تشكل وعي جديد لدى تلك الشعوب بالقضية الفلسطينية، وبأن الكثير من المعطيات من الممكن أن تتغير على الأمدين المتوسط والبعيد، إضافة إلى ما يحدث اليوم بالفعل من تغيير في الرأي العام الدولي بفضل الصمود الأسطوري للمقاومة، رغم كل أنواع التقتيل وأطنان النار التي تُلقى على القطاع كل يوم.