تُعد الفجوة بين جيل الأبناء وجيل الآباء ظاهرة اجتماعية طبيعية، ترجع إلى أسباب عدة مرتبطة بالتنشئة الاجتماعية ومدى مرونة الآباء في التكيف مع التغيرات التي تعرفها المجتمعات وتغير نمط الحياة فيها. وهي ظاهرة تؤدي إلى تبادل اللوم والعتاب بين الجيلين؛ فالآباء يتهمون الأبناء بعدم احترام تقاليدهم وثقافتهم وأعرافهم وأنماط السلوك المختلفة المتعارف عليها في مجتمعاتهم، في حين يتهمهم الأبناء بالجمود والتزمت والانغلاقية الفكرية وانعدام المرونة وعدم القدرة على إدراك أنماط الحياة الجديدة. ويترتب عن ذلك غضب كل فريق من الفريق الآخر، وحدوث تصادم بينهما في الآراء والمواقف، سواء تعلق الأمر بقضايا حياتهم اليومية، وكيف ينبغي أن يعيشوها، أو بقضايا الشأن العام والقضايا المصيرية للأمة. وقد عبر جورج أورويل عن هذه الظاهرة بشكل بليغ حين قال: “يتخيل كل جيل أنه أذكى من الجيل الذي سبقه، وأنه أكثر حكمةً من الذي يليه”.
وهذا الاختلاف بين الأجيال يبقى طبيعيا إذا بقي في نطاق معقول، بحيث لا يُؤدي إلى تفكك الأسرة وانفصال أفرادها عن بعضهم البعض، باعتبارها -أي الأسرة- الخلية التي لا بد منها لأي مجتمع، وفيها تُلقَّن المبادئ والقيم الضرورية لاستمراره. وهذه الفجوة بين الأجيال تُلقى بظلالها على القضايا المهمة لكل أمة، فكل جيل له تصور وارتباط معين مع القضايا التي تهم أمته. وغالبا ما تتهم الأجيال اللاحقة الأجيال السابقة لها بالتفريط وإساءة التقدير وارتكاب أخطاء فادحة، غيّرت مسار هذه القضية أو تلك، أو اطالت أمد هذه المشكلة أو تلك.
في هذا السياق، قمت بالبحث حول التغيرات في التعاطي مع القضية الفلسطينية بين الأجيال، وتحليل الأخطاء التي وقعت فيها الأجيال السابقة، وكيف يمكن للجيل الجديد إضافة قيمة لهذه القضية. ومن بين المحاضرات التي تأثرت بها محاضرة الخبير الاستراتيجي وضّاح خنفر “7 أكتوبر وجيل جديد: مصارحة ونداء”، التي حاولت تلخيصها ومناقشة أفكارها في هذا المقال.
الأجيال التي عاصرت القضية الفلسطينية يمكن حصرها في أربعة أجيال، باعتبار أن معدل الجيل الواحد ثلاثون سنة، وهي الفترة الزمنية التقريبية والمتوسطة بين ولادة الآباء وولادة الأبناء. وكل فرد منا إلا وينتمي إلى أحد هذه الأجيال الأربعة. وهي من سوء حظها أنها تنتمي جميعها إلى مرحلة ما بعد انقطاع الأمة عن فكرة الإجماع السياسي، ودخولها في مرحلة الدولة القطرية الضيقة. فالإجماع، بالمفهوم الذي أسستْ له وثيقة المدينة التي وضعها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والذي يعد رابطة روحية وسياسية تقتضي الحماية والدفاع عن كل فرد من أفراد المنضوين تحته، لم يَعد له أساس متين في ظل الدولة القطرية أو الدولة الوطنية، والتي تَقتضي أن مشاكل المسلمين في دول أخرى هي مشاكل أغيار وأجانب. وعلى الرغم من أن معظم المسلمين لم يَفقدوا بعدُ استشعار الوحدة مع غيرهم من المسلمين، إلا أن أدوات تفعيل ذلك على أرض الواقع أصبحت منعدمة، خاصة في ظل الفرقة السياسة بين الدول الإسلامية في الغالب، وفقدان أغلبها لسلطة اتخاذ القرارات الحازمة فيها.
وفي ظل هذا الوضع، نشأت تيارات سياسية متعددة ومتصارعة فيما بينها، أدت إلى تشتت التركيز لدى الأجيال، وفشلتْ كلها في الأخير؛ وأعني هنا التيارات القومية واليسارية والعلمانية والإسلامية السياسية؛ فالتيار القومي رغم أصوله العربية والإسلامية، والذي كان من وراء تأسيسه محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، إلا أنه انحرف بعد ذلك للتركيز على مسألة العرق، وجعله أولوية، وأما التيار اليساري فلم يراع العقل الجمعي والوازع الديني والاختلاف القبلي داخل بلداننا، بل كان قاسيا على أصحابه وعلى البورجوازية، وعمَد إلى إسقاط الأيديولوجية السوفياتية على بلدان مختلفة ثقافة ودينا وتاريخا، فاندحر باندحار الاتحاد السوفياتي بل قبله بقليل.
وأما التيار العلماني، ورغم أنه استطاع الاستمرار في الوجود إلى اليوم، إلا أنه ارتطم في أحضان المستعمر القديم، وأعلن خصومته للموروث الديني والثقافي الأصيل، وحاول استيراد ديمقراطية معطوبة مفصلة على مقاسات معينة، فكان مآلُه الفشل كذلك.
وأما التيار الإسلامي فحاول أن يرث فكرة الإجماع ويبحث عن شيء يُمكن أن يجتمع عليه الناس، أو أن يجعله وسيلة جذبٍ لالتفاف الناس حوله، غير أنه اصطدم بتغيُّرات ثقافية واجتماعية كبيرة في المجتمعات الإسلامية، ولم يستطع أن يُكيف مشروعه السياسي مع هذه التغيرات؛ كما اصطدم من جهة ثانية بالحدود الجغرافية القطرية، التي تَجعل أيةَ طموح إلى تصدير نموذج سياسي معين إلى دولة أخرى تهديدا أمنيا وقوميا لدول أخرى، أدت إلى اصطدام هذا التيار مع الأنظمة السياسية للدول التي نشأ فيها ومع دول أخرى؛ فكان طبيعيا أن يفشل.
كان هذا هو المناخ السياسي التي نشأت فيه الأجيال الأربعة الأخيرة التي عاصرت القضية الفلسطينية، وقد عاشت فيه مفارقة صارخة، وهي أنها تشعر بأن الحدود الجغرافية إن هي إلا أوهام وضعتها السلطات الاستعمارية من جهة، وأنه لا حدود فاصلة بين مشرق هذه الأمة عن مغربها، وأن هذا الأمر متجذر في تاريخ هذه الأمة؛ فصلاح الدين الأيوبي رحل إلى المقدس من أجل قتال الصليبيين فيها، وعز الدين القسام جهز رجال ليبيا للقتال في فلسطين، وأن هذه الأمة في الوقت التي كانت تخسر أراضيها في الأندلس، كانت تتمدد في الهند وفي القسطنطينية. فهي أمة بدون حدود، ويصعب أن تُلزمها بحدود. لكن في المقابل تشعر هذه الأجيال بأنها لا قدرة لها على اتخاذ أي قرار من شأنه أن يغير واقع الأمور على الأرض، وأن الحدود الجغرافية بحق تُلزمها، وأن أية مغامرة بتجاهلها من شأنها أن تُنشب حربا طاحنة في المنطقة، لا أحدَ بإمكانها أن يتنبأ بنهايتها أو نتيجتها.
على تلك الحال كانت الأمة، وعلى هذه أصبحت اليوم؛ كنا كجسد واحد، إذا تألم منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وأصبحنا جزرا منفصلة؛ كل دولة عليها أن تواجه قدرها بنفسها، فإذا انكسرت، لم تجد بجانبها من يحاول مد يد العون إليها. وهذا الوضع البئيس الذي يُسأل عنه الجميع هو الذي يولد حالة الإحباط العامة التي تعيشها شعوبنا في المنطقة، لأن مفهوم الأمة الواحدة ما زال متجذرا في لاوعيها؛ شعوب كبيرة عددا، ولكنها لا تستطيع تقديم أي شيء للمستضعفين في غزة، سوى فتات التبرعات والدعوات بالنصر والتمكين. ولعله يُمكن إرجاع نشأة الحركات الإرهابية التي تتبنى أساليب انتقامية متوحشة في المنطقة إلى هذا المعطى، بحيث يمكن اعتبارها رد فعل عن هذا الوضع، ونتيجة لهذا الإحباط العام.
وعلى كل حال، فإن الذي لا شك فيه أنه لا يمكن للأمة أن تنهض في ظل مفهوم التجزئة الذي يسود، ولا أن تبدع في ظل هذه التيارات والحركات والأحزاب، ولا أن تجتهد في ظل أيديولوجيات مغلقة. وأن عزوف الشباب عن الاهتمام بالشأن العام لا يُعزى إلا إلى هذا المعطى، فنحن نعيش مرحلة انتهاء الأيديولوجيات. وقد أصبحنا مضطرين إلى تبني أشياء جديدة، باعتبار أن روح الأمة ما زالت حاضرة، وأن قدرة هذه الأمة على المقاومة ما زالت كبيرة. فالحاجة قائمة وماسة إلى رؤى جديدة، لا تحبس الناس في أفكار وقوالب وأيديولوجيات مغلقة؛ رؤى تتبنى استراتيجية الأهداف، بحيث تضع أهدافا كبيرة محددة تعمل على تحقيقها، وتمكن الناس من تفجير إمكاناتها الإبداعية والإنتاجية.
ولعل ما شهدناه من التواصل الفعال بين شبكات ومنظمات إغاثية عالمية في غزة هو نموذج على إمكان نجاح مثل هذه الرؤى، حيث إن هذه المنظمات لها هدف واضح، هو الإغاثة وتقديم المساعدة. كانت لها رؤية وهدف محددان، أدى إلى تضافر الجهود وتكاملها من أجل تحقيق الهدف، وهي تنجح فيه في حدود معقولة، قياسا على معطيات واقع الأرض.
إن غزة وهي غارقة في جراحها ومأساتها يمكنها أن تكون ملهمة لنا في سعينا الدؤوب إلى الإقلاع الحضاري، ويمكنها أن تكون نقطة ارتكاز النهضة في العالم الإسلامي. نحتاج أن نحدد أهدافنا المشتركة، وأن نبتكر منظومات تشتغل باستراتيجية الأهداف، ونشتغل في تكامل على تحقيقها، وفي ظل استراتيجيات تمكننا من معرفة العاملين وغير العاملين، حتى لا يعيش أحد في ظل الآخرين.