الحرب على غزة…هل هي حرب على الإسلام ؟
حاولتُ، منذ بداية معركة طوفان الأقصى، أن أنفتح على كثير من القضايا ذات الصلة بالنظام العالمي الحالي، وبعلاقتنا به وموقعنا منه. وكان من بين مصادري في ذلك متابعة الكثير من اللقاءات الحوارية المعروفة بالبودكاست، والتي تستضيف مجموعة من الباحثين والمفكرين والخبراء الذين راكموا تجارب معرفية وعملية مهمة. ومن بين هذه اللقاءات الحوارية لقاءٌ تناول موضوعا أصبح ملحا اليوم، وهو سبب معاداة الغرب للمسلمين، وذلك من خلال بودكاست الشرق، في أحد حلقاته التي استضاف فيها المفكر والسياسي الجزائري الدكتور عبد الرزاق مقري، الأمين العام لمنتدى كوالالمبور للفكر والحضارة، والرئيس السابق لحركة مجتمع السلم الجزائرية، وهي الحلقة التي تضمنت مادة معرفية زاخرة، ورؤى وأفكارا مهمة، ومن خلالها انبثقت لدي مجموعة من الأفكار، فضلا عن اقتباس بعض منها، في محاولة الجواب عن هذا السؤال.
والباعث على الاهتمام بهذا الموضوع هو ما حققه طوفان الأقصى في الوجدان الدولي العام، وما نلحظه مِن تقبل فكرة وجود حركة مقاومة، تنطلق من مرجعية إسلامية، والتي هدّمت سنوات من العمل الدؤوب على ربط الإسلام بالإرهاب، ومحاولة تبخيس صورته في نفوس غير المسلمين، حتى أنه يمكن القول بأن طوفان الأقصى أزال اللثام عن هذه الأكاذيب. فمن هنا كان التساؤل: لماذا كانت هذه الحملة الإعلامية المغرضة موجهة ضد الإسلام؟ ولماذا يرفض الغرب عودة الفكرة الإسلامية إلى لعب دورها الطبيعي في المجتمعات الإسلامية؟
لعل أسئلةً مركبة من هذا النوع لا يمكن تقديم إجابة جاهزة وقاطعة لها، لكن التاريخ دائما ما يُسعفنا في توسيع أفق نظرنا، ونحن نحاول فهم موضوعات شائكة من هذا النوع. ولذلك يبقى مناسبا أن نعود إلى حدث مفصلي في تاريخ المسلمين، وهو سقوط الدولة العثمانية. وهو الحدث الذي كان غير مسبوق، لأن الدولة الإسلامية منذ نشأتها الأولى في المدينة المنورة، كان القرآن على الدوام هو دستورها، وهو المرجع الذي يعود إليه الجميع في الحكم، وكانت السنة مصدرا مكملا له، ثم صار الفقه الذي نشأ عنهما والتفقه فيهما هو المدونة التي يرجع إليها القضاة للبث في النزاعات بين الناس. ولم تكن فكرة العلمانية وفصل الدين عن الدولة حاضرة في تلك البلدان قبل هذا الوقت.
وبعد سقوط الدولة العثمانية، التي كانت آخر دولة مركزية إسلامية، ظهرتْ دويلات إسلامية، تم تشتيتها إلى دويلات قطرية، لكل واحدة نظامها الخاص، وكل دولة تحتكم إلى مرجعية معينة، وإن كان الإسلام لم يغب تماما عنها، رغم أن المتآمرين على هذه الأمة قاموا بكل ما يستطيعون من أجل القضاء على حضور الدين في تسيير الدولة نهائيا، وبأي ثمن، حتى يُصبح هذا المجتمع غير قابل للاستنهاض مرة أخرى. والاستنهاض يأتي دوما من فكرة مركزية، وهي الفكرة الدينية في سياقنا الإسلامي.
من هنا، حاول الأعداء تخسيس هذه الفكرة في نفوس الناس حتى يسهل ابتلاعهم من طرف الحضارة الغالبة، كما وقع لشعوب أخرى في الأمريكيتين الوسطى والشمالية وفي أمريكا الجنوبية، حيث لم تبقَ أية ملامح لحضارة تلك الشعوب، بل انصهر الجميع في الحضارة الغربية، وأصبحوا يتحدثون باللسان الإنجليزي أو الإسباني. وهذا الأمر لم يستطيعوا تحقيقه في الحالة الإسلامية، إذ رغم سقوط الدولة العثمانية ظلت الفكرة الدينية مستمرة في الوجود. ولعل من أسباب ذلك، ظهور عدة مفكرين كانت لهم نزوع إصلاحية وتجديدية، أسهموا في تحيين هذه الفكرة وتعهدها، بالإضافة إلى تشبث الشعوب العربية والإسلامية بموروثنا الديني والثقافي.
فهذه الحركات التجديدية كان لها فضل كبير في إحياء الفكرة الدينية في نفوس الناس، وجعلهم يُقبلون عليها. لكن، وبالرغم من ذلك، فالغرب بدوله وإعلامه ومؤسساته، ما زال يحارب الإسلام، دينا ومنهجا وفكرة، ويرى فيه العدو الأكبر لمشروعه الرأسمالي الذي يطمس الهويات ويمحوها. وما فلسطين في سياقنا الحالي إلا مثالا على ذلك، باعتبار فلسطين في النهاية إنْ هي إلا دولة إسلامية، كما أن حكومة غزة ناتجة عن اختيار شعبي، بعد انتخابات نزيهة، والتي تلاها ما تلاها من حصار وتضييق على الناس وتقتيل لهم في تلك البقعة المباركة.
في الواقع، هناك معطيات فكرية واستراتيجية تجعل الغرب يرفض فكرة عودة الإسلام إلى الحياة في المجتمعات الإسلامية، أعني الإسلام الفاعل الذي يُنظم كل شيء في حياة الأفراد والمجتمعات، من أعلى قمة النظام في الدولة إلى أقل جزئية في حياة الفرد. ولعل المعطى الأول الذي يأتي في صدارة هذه المعطيات هو أن العالم منذ أزيد من عقد وهو يتحول من أحادي القطب إلى متعدد الأقطاب، وهذا الأمر بلغ أوجه في السنوات الأخيرة، ويُعبِّر عنه التمرد الروسي وحربها على أكرانيا رغم تهديدات حلف الشمال الأطلسي، المعروف اختصارا بالنيتو، بالإضافة إلى الصعود الصاروخي للتنين الصيني. وهذا يتيح للدول الإسلامية أن تختار شركاءها بإمعان، ولم تعد مضطرة لشراكة واحدة مفروضة. وهو ما يوفر متنفسا للأمة الإسلامية، وهامش مناورة في شراكاتها مع الدول الأخرى يمكن أن تبني عليها مشاريعها المستقبلية.
والمعطى الثاني هو أن العالم منذ عقود صارت تحكمه فكرة واحدة، هي الفكرة الرأسمالية المادية العلمانية، المفصولة نهائيا عن الدين، بل والمعادية له. ومن ثم، بقي المشروع الإسلامي هو الشيء الوحيد الذي ما زال يربط الأرض بالسماء، ولعله المشروع الوحيد الأكثر اكتمالا وذو طموح عالمي في السياق الحالي الذي ينافس الرأسمالية المادية الغربية.
ولأن التاريخ أستاذ شاهد، فنحن مضطرون للرجوع إليه مرة أخرى، لنفهم هذا التوجس الغربي من الفكرة الإسلامية، ذلك أن العالم الغربي عندما يلاحظ أن الفكرة الإسلامية ما زالت حاضرة في وجدان المسلمين يعود إلى المتخيل الأوروبي وما حدث في القرون الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر من صراع بين القوى الإصلاحية وبين الكنيسة، والذي ولّد لاحقا شعورا عاما بعدم الارتياح إلى الفكرة الدينية، بل وكان السبب في معاداتها الصريحة. وهو الوضع الذي ترتب عنه الإصلاح الديني المتمثل في الحركة البروتستانتية بعد دعوات عدة من فلاسفة ومفكرين تنويريين. وللعبرة، ففي هذا الوقت الذي كانت الكنيسة تحكم بالظلم، وتضيق على حريات الناس، ولم تستطع إنتاج حضارة قابلة للاستمرار في تعايش مع القيم الدينية، كانت الحضارة الإسلامية في أوجها، وكان الدين ينظم كل أمور الناس، سواء الفردية منها أو الجماعية.
إن ظهور الحركة البروتستانتية سيكون تأثيرا كبيرا ليس من الناحية الدينية فقط، وإنما من الناحية الاقتصادية أيضا؛ ذلك أن هذه الحركة الإصلاحية الدينية كانت السبب وراء ولادة النظام الرأسمالي، حسبما تثبته دراسة ماكس فيبر في كتابه روح البروتستانتية والأخلاق المسيحية، والذي خلص إلى أن البروتستانتية، كرؤية للعالم، مهّدت لظهور الرأسمالية، باعتبار أن هذه الحركة الدينية تُشجع على الإقبال على مباهج الحياة وملذاتها، وهو ما يستلزم بالضرورة السعي أكثر إلى الثراء وتكديس المال، وحاولت أن تكون أكثر ارتباطا بالواقع، أدى ذلك كله إلى ظهور مفاهيم العلمانية والليبرالية في وقت لاحق، خاصة بعد انتشار مقولة أن ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، في حين أن الكاثوليكية كانت تشجع على أخلاق الزهد والتقشف في الحياة الدنيا؛ وبالجملة، فالتشديد على الناس، وإنزال مختلف أنواع الظلم عليهم باسم الدين، أدى إلى ظهور حركات مناهضة للكنيسة، خصوصا في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، فحوصر الدين وتم تضييق تدخله في الحياة العامة، وقد نجحوا في ذلك في السياق الغربي، أما في السياق الإسلامي فرغم محاربة الفكرة الدينية في المجتمعات الإسلامية، خاصة خلال فترة الاستعمار التي استمرت لأزيد من قرن، ومحاربتها بمختلف الوسائل حتى في فترة ما بعد الاستعمار، إلا أنها ظلت حية في وجدان المسلمين، لم يطرأ عليها تغيير كبير.
من هذا المنطلق، يأتي بُغض المفكرين الغربين اليوم لكل ما هو إسلامي، أو يوحي إليهم بالفكرة الدينية، وذلك لأنه يُعيد إلى متخليهم ذلك الصراع المرير مع الكنيسة. إلا أن هذا الإسقاط الفج من الطبيعي أن يكون غير مقبول لاختلاف السياقين. يقول مونتسكيو في كتابه روح الشرائع: “ليس من العدل أن تنقل مفهوما سياسيا من منطقة لتطبقه في منطقة أخرى، لأن أي مفهوم سياسي ينبغي أن ينشأ نشأة طبيعية”. وهذا يعني أن المفهوم الذي نشأ نشأة طبيعية في بيئة معينة، فإنه قد يصلح لتلك البيئة، وقد تترتب عن تطبيقه فوائد لا تحصى لتلك الأمة. لكن، كونه نجح في تلك البيئة لا يعني أنه يجب استيراده ومحاولة استنباته في بيئة أخرى مختلفة تماما عن البيئة التي نشأ فيها، لأنه لن ينجح بكل تأكيد.
بالإضافة إلى ما سبق، هناك بُعد آخر لا يقل أهمية عن الأبعاد السابقة، ألا وهو البعد التاريخي، والذي يتجلى في الصراع الذي كان بين المسلمين والمسيحيين، انطلاقا من غزوة اليرموك مرورا بوصول الإسلام إلى الشام والقسطنطينية وأوربا، ثم ما تلا ذلك من الحروب الصليبية، وهي المعارك والحروب التي حقق فيها المسلمون انتصارات مهمة، على الأقل في مرحلة من مراحل هذه المواجهة. ولذلك فالغربيون واعون بأنه لو فُتح باب للفكرة الدينية الإسلامية إلى الاعتمال من جديد، فربما يترتب على ذلك نهضة جديدة لهذه الأمة، كما يدركون جيدا أن هذه الفكرة تبقى مرشحة للعودة بقوة، بعدما تبين للناس فشل فكرة الرأسمالية التي فقّرت الناس واستعبدتهم، خاصة في ظل النتائج التي يشهد عليها الجميع بالنسبة للنظام العالمي الحالي.
فإذن يمكننا أن نتفهم الخوف من فكرة مشروع ذي أبعاد عالمية وطموح في الاستمرار إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، خاصة بعدما صاحب أحداث طوفان الأقصى من إقبال ملحوظ على الإسلام من طرف غير المسلمين. وإذا كان الإسلام يتمتع بهذه الجاذبية والقوة في الاستقطاب في ظل ظروف المسلمين الحالية المزرية، فما الظن إذا أصبح للمسلمين دول قوية متطورة، تتوفر فيها للفرد كل الظروف والحقوق اللازمة للعيش الكريم؟ لا شك أن ذلك سيلهم الآخرين بشكل كبير لاعتناقه والانخراط في سلكه.
ومما يقوي تخوف الغربيين أن الأحداث الجارية كشفت للكثيرين، الذين كانوا يجهلون ذلك، كيف أن المصالح العالمية الكبرى متمركزة في هذه المنطقة التي ينتشر فيها الإسلام، وأن أغلب الموارد وخاصة موارد الطاقة توجد فيها، بالإضافة إلى ممرات بحرية ذات عمق استراتيجي كبير. ولا شك أن خطورة الفكرة الدينية تنبع من كونها يمكن أن تكون سيادية، وذلك من شأنه أن يضر بالمصالح الغربية، خاصة في ظل تشكل أقطاب جديدة، وهي المشار إليها سابقا، فلا يتحمل النظام الرأسمالي الغربي الحالي أن يظهر قطب جديد، والذي يُفترض أن يكون هو قطب المجموعة العربية والإسلامية، وهي الدول التي يبقى الدين فيها مرشحا دائما ليلعب دورا هاما في الوحدة بين الدول المكونة له، وهو ــ أي الدين ــ كان البذرة التي انبثقت عنها الحضارة الإسلامية برمتها.