أجساد أطفال وعقول فلاسفة
عالم الطفل الصغير كما نتداول دوما صغير على قدر حجم الطفل وعلى قدر أبعاده الطولية والعرضية. بل والبعض يتحدث عن حجم الدماغ وارتباطه الاطرادي بالنضج العقلي والنفسي. وهذا ما تدحضه طبعا بعض حالات التأخر العقلي والاضطراب النفسي، وإن كان الدماغ دماغ راشد مكتمل الجسد.
إن النظرة الميكانيكية المباشرة هذه غير المرنة والضيقة تجعلنا أحيانا نبخس حقوق “الصغير”، بل وتجعلنا نهدم عالمه الواسع من حيث ندري أو لا ندري، وذلك بأحكامنا غير الواعية والناقصة في أغلب الأحيان، في حين أن المنطق يقتضي على الأقل أن نجعل أنفسنا في أحجامهم ومستوياتهم النفسية والعقلية إن كان التقزيم البيولوجي مستحيلا، وذلك كلما انبرينا –نحن الكبار– لمخاطبته ومحاورته، أو بالذات، حين نقصفه بوابل من الأوامر والنواهي وبلا هوادة!
إن كنت ناسيا شيئا فلست أنسى أحد الصغار، وهو على الأرجح في الثامنة من عمره، حين استفسرني حول عبارة “طول العمر يصنع الحكمة”. سألته حينها عن معنى الحكمة، فأجابني جوابا مباشرا: إنها الأعمال الجيدة. ولم يزد على هذا القول على ما أذكر.
لم أتساءل حينئذ عن مصدر القولة هاته، ولم أعتبره ببغاء ناقلا للكلام وكفى، لكنني تساءلت: لماذا هذه العبارة بالذات دون آلاف العبارات التي تستدخلها الأذن وتستوقفها الذاكرة؟!
طبعا، لن أبالغ وأقول إن “الصغير المتسائل” مدرك إدراكا جيدا تفريعات الحكمة وتقسيمات الفلسفة عموما إلى قضايا الخير والحق والجمال، ولن أغامر بالقول كذلك إن مداركه ومعرفته البسيطة قادرة على استحضار كل ما تنطوي عليه العبارة من معان وحقائق، فالحفظ عن ظهر قلب كما أكد “ميشيل دي مونتين” لا يعني المعرفة. لكني مع ذلك لا يسعني إلا أن أرفع تحية تقدير لهذا “الفيلسوف الصغير”، كونه على الأقل استفسر عما لا يستفسر عنه أقرانه على سبيل العادة.
“دريد لحام” الفنان السوري كتب ذات مرة يقول: “عقل الطفل أكبر من عقل الرجل، لكن الطفل تخونه اللغة”، طبعا هذا القول يضرب نتائج العديد من النظريات التربوية النفسية عرض الحائط، وهي التي تؤكد جملة أن الأطفال بين سبع سنوات واثنتي عشرة سنة يحاولون الاستدلال المنطقي، لكن في حدود المحسوس والملموس، وكل تفكير “مارق” يخرج عن النطاق المحدد بالحسية، إنما هو رهان معرض في أفضل الحالات إلى الفشل!
قد نحترم وجهات النظر هاته، فالأزمنة التي أفرزتها والظروف العلمية التي أنشأتها لها أيضا اليد الطولى على نتائجها، وكذا القوانين التربوية التي أسستها وعممتها. بيد أننا لسنا مطالبين بالتسليم بكل ما أورده التاريخ، إذا كان “الصغار” قد أثبتوا العكس، واستطاعوا تحطيم الأوهام الموروثة، كما حطم الطب النفسي الحديث أزعومات النمساوي “سيغموند فرويد” بتشكيل شخصية الإنسان الكاملة في السنوات الخمس الأولى من عمره، ومن فاتته هذه الخمس فسيعجز حتما عن إعادة هيكلة شخصيته مهما صنع! وكذا مبالغات معامل (IQ) الذكاء، أقصد تصنيف “وكسلر” المعروف لذكاء الأطفال.
وإن أردنا تعضيد كلام “دريد” توسلنا مقولة عالم النفس الإنجليزي “هادفيلد” الذي كتب يقول: “الطفل في الثانية عالم، وفي الرابعة فيلسوف”. كلام ثري يصب فيما نؤسس له من وجهة نظر تنصف عالم الصغار الذي ما فتئ الكبار يدوسونه بأحذيتهم السميكة، دون وقفة جدية ورصينة أمام عالم يحفل بالأعاجيب.
لم يزل العلم منكبا على سبر أغوار فضاء الطفل بتجريب النظريات والحقائق الواحدة تلو الأخرى، ولم يزل كذلك يكتشف في كل مرة أشكالا من المعرفة الجديدة التي لم تَبْدُ لعيان القدماء من المنظرين والتخصصين، فالعلم كما قال الفرنسي “أوغست كونت” يستوعب كل الظواهر الكونية ما عدا الإنسان، كون النفس الإنسانية أصعب شيء يمكن أن تحيطه وتدرسه كما عبر عن ذلك الفرنسي “ميشل دي مونتين”، والألماني “يوهان فيشته” بقوله: “العالم والكون مجموعة من القوانين الحتمية، سوى الإنسان الذي يعتبر عالما من الحرية”. فإذن، إذا كان طرح السؤال من اختصاص الفلاسفة والمفكرين، فلا شك أن كل طفل يستحق أن يرتدي عباءة فيلسوف، إذ لا تفتأ حنجرته تفصح عن كل التساؤلات والإشكالات التي تطوق وتشغل فكره الشاسع وخياله الجامح. فتاريخ العلم والمعرفة الإنسانيتين ما هو إلا تاريخ أسئلة طرحتها عقول متحررة تواقة إلى الانعتاق من ربقة الغموض واللبس والظلام، وكما قال “علي عزت بغوفيتش”: “لا يسمع الجواب إلا من طرح السؤال”.
فيا أيها الكبار، إنكم أمام فلاسفة بأحجام صغيرة، أنصتوا لما يدور في خلدهم واهتموا بتشغيباتهم المدهشة، وكونوا متواضعين وخذوا الحكمة من أفواههم، وكما صدح بها فيلسوف الأنوار “جان جاك روسو” قبل زهاء ثلاثة قرون أقول: “اعرفوا أطفالكم فإنكم حتما لا تعرفونهم!”