الإنسان بين التسيير والتخيير في ماهية الوجود والإعمار
إن المتأمل في الدورة الحياتية للكائن الحي بشكل عام والإنسان بشكل خاص، يطرح مجموعة من الإشكالات الفلسفية والوجودية، والتي ترتبط أساساً بحياته العامة فوق هذه البسيطة، وعلاقة هذا الكائن الحي مع محيطه وماهية وجوده، ومساهمته ودوافعه في ولبناء الحضارة الإنسانية.
كما أن تقييم وتفاعل الإنسان مع الحياة العامة ومحيطها وأبجدياتها، يسوقنا لإشكالية الحرية، أي أن بني آدم هل هو حر في كل أفعاله وله الحق في أن يفعل أي شيءٍ أم أن حريته مسلوبة من خلال ميكانيزمات الطبيعة وعواملها وتؤول دون ذلك، بتعبير آخر هل الإنسان مُسَير أم مُخَير في أمور حياته، في سعيه وطموحاته وغاياته النبيلة في إعمار الأرض وتحقيق الرفاه الاجتماعي. وهل التدافع مع بني البشر في تحقيق أهداف وغايات في غالبيتها تكون محط تنافس وتحدي بين مختلف المكونات المجتمعية، بحيث أنه وفي هذا الإطار يمكن للبعض أن يلجأ للعب غير النظيف وتبدأ سلوكيات مذمومة لا تحافظ على التنافس الشريف بين الأفراد والمجموعات، ونرى هنا غدر وهناك بهتان وتشويه، وغيرها من السلوكيات التي يكون الهدف منها هو الإقصاء التام للآخر والاستفراد وتحقيق ما يجب مهما كانت الوسائل، وأن الغاية تبرر الوسيلة، وأن الجحيم هُمُ الآخرون كما قال ذلك أبو الفلسفة الوجودية بول سارتر.
قد تختلف الأطروحات الفلسفية والفكرية في تحديد علاقة الشخص بكل هذه المكونات الطبيعية والمجتمعية والوجودية، وكيف للفرد أو الجماعة أن تجيب على تدبير العلاقة بين السعي نحو الهدف وتحقيق التوازن بين الهدف والأدوات وأيضاً النتائج التي ستفرزها الحركية المجتمعية في بناء العمران الإنساني.
من بين الأمور التي سنتناولها في طرحنا هذا هو هل الإنسان مخير أو مسير في وجوده الإنساني، وهل هناك حدود تفصل بين الإجابتين بينه وبين خالقه، وخصوصاً أننا يمكن أن نلخص أن مهما اختلفت تمظهرات السعي والكد للأفراد والجماعات فإن الهدف والغاية هو الحصول على نتيجة أي الحصول على رزق، فأي شيء في هذه الأرض وفوق هذه البسيطة هو رزق من الأرزاق.
نعتقد اعتقاداً يقيناً أننا مسيرون في الأقدار والأرزاق، لكن مخيرون في الأسباب والأعمال، فنتيجة سعيك وأعمالك التجارية والأكاديمية والاجتماعية هي قدر مقدر وقسمة من عند الله الذي أوجدك، أما السعي والكد والعمل فأنت مُلزم به ما دُمت مكلفا عاقلاً، وممتلكاً لمختلف الأدوات وقد أفردك الباري بالعقل وميزك بامتلاكك له، أي أن تمتلك عنصراً أساسياً في الدورة الحياتية للبشرية وهي ميزان التكليف والوجود، كما استنتج ذلك الفيلسوف العقلاني ديكارت: “أنا أفكر.. إذاً أما موجود”، وهنا وجب معرفة أن تقييم التجربة المجتمعية للأفراد والمجتمعات تكون على أساس المجهود والنتائج، وأما من ناحية علاقتك بالخالق جل جلاله لا يحاسبك على النتائج وإنما على الأسباب واختياراتك وليس على رزقك وقدرك.
وهذا من أصل الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، وأصل الأسباب هو وقل اعمَلوا، وإذا قامت الساعةُ وفي يدِ أحدكم فسيلة فليغرسها، فلنعِي جيداً أننا مكلفون ومخيرون بالعمل فقط لا غير!
وإنه لأصل ثابت مُشَرع في ذلك الاختيار أنه لكم دينكم ولي دين، أي أن لي سعيي وأسبابي ولكم سعيكم وأسبابكم، وهذا كما هو الأصل الفقهي لقاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهو ما تعنيه دلالة اللفظ بوجوب سلك الطريق الصحيح السوي، لا بالطريق الخطأ، وكلاهما من أصل الأخذ بعين الأمر وأصله. وهذا مبدأ كوني لكل أمر حياتي دنيوي وأخروي في السعي في إعمار الأرض وتنمية البناء الحضاري الإنساني، وقبل ذلك أولا البدء بنفسك أولا وبجماعتك ومحيطك الصغير والمتوسط، وكلما اتسع نطاق الوجود اتسع معه نطاق المسؤولية ووجوب الأمر بذلك.
ونحن إذ نتحدث في الأمر لا نتحدث عن صلاة أو زكاة أو صوم أو غيره، وإنما نتحدث عن التجارة والكسب والأعمال وكل ما يشغل الحياة العامة للفرد والمجتمع، ومعاملاته في الإدارة والشركة، في البيع والشراء، والزواج والأسرة، وهي كلها أرزاق وإن اختلفت تمظهراتها، تبقى قاعدة السعي فيها وقل اعملوا وأصل الأمر فيها لكم دينكم ولي دين. فهذا من تمام إرساء مجتمع متضامن فيه سلم اجتماعي ورخاء اقتصادي وتوزيع عادل للثروات، وعدالة اجتماعية، وحكامة إدارية، وربط للمسؤولية بالمحاسبة، وفيها يمكن أن نرسي عدالة مجالية بين بقاع المعمور، لا بين جهات ومحافظات رقعة جغرافية بعينها، وهنا مربط الفرس وأصل الجهاد الأكبر لا الأصغر.