التصوف المعرفي…
كان التصوُّفُ ولا يزالُ في النسق الديني المحض بمفهومه النفسي، ومعناه الروحي، وبُعده الوجداني، سلوكاً راقياً ومنهجاً لطيفاً يسْبُر المرء من ثَناياهُ ما وراء المحسوس، ويمسح عن مرآة روحه الصقيلةِ ضبابيةَ الحياة المُعتِمَة؛ لتصفوَ منهُ الحواسُّ وتنجلي له معالمُ ودقائقُ من الأمور.
فحين يكون الماءُ صافياً وساكناً لا يُعوِزُ العينَ الباصرةَ أن ترى من خلاله صورتَها، أو تستشِفَّ بمزيدٍ تركيزٍ ما في أعماقه، بخلاف ما لو كان متحركاً غيرَ ساكنٍ ذا تموُّجاتٍ، فلا تقِرُّ منه العين على شيءٍ.
أفرادٌ معدودون جدّاً من رُوَّاد الحضارات الإنسانية استطاعوا نقل هذا النمط السلوكيِّ في التصفية الروحية والذهنيَّة من الحَيِّز الوجداني إلى الحيِّز الفِكْري والمعرفي، لكنهم ـ على نُدرتهم ـ أثروْا بذلك من تخصصاتهم، وشكَّلت نظريَّاتهم وآراؤهم طفرةً نوْعيَّةً ومُنعطَفاً تاريخياً صار فيها من جاء بعْدُ عالةً عليهم.
قديماً قال أحدُ الحُكَماء : “أعظم سبب للفشل هو النجاح“!
لعل هذه العبارة في الوهلة الأولى لا توحي بمضمونها الصحيح، ومعناها العميق، إلا أن توضع في سياقها المناسب؛ لقد صار مفهوم النجاح في زمن وسائل التواصل الاجتماعي والشهرة “الكرتونية” والتعالم “الافتراضي” والمواقع العامة والخاصة والعالم الأزرق وعالم التغاريد… رهيناً بمدى استجذاب أكبر هالة من الجماهير والحشود، واستدرار أكثر عدد من الإعجابات والتعاليق دون النظر بأية قيمة معياريةٍ أو علميةٍ لنوع هذا الجمهور، من منطق “حبَّذا الإمارة ولو على الحجارة” !
بل صار مما يُزْرِي بمقام بعض الكُتَّاب والمُثقفين، ما يمارسونه “شخصيّاً” من مهنة التسويق ـ الماركوتيغ ـ لكُتُبِهم ومؤلفاتهم، ويقعدون بالغدوِّ والآصال، بكرةً وعشياً أمام شاشاتِ حواسيبهم وهواتِفهم ينْتَشُون بتعاليق آلاف المتابعين وإطراء عوامِّ الناس، ممن لا يميزون في الغالب بين الغث والسمين، ولا تعود آراؤهم على الكاتب بأيَّة منفعة.
إن تحويل الميدان العلمي إلى مصدر للنجومية “الهوليودية”، وإيثارَ جانب الكَمِّ والتراكُم العقيمِ على جانب الكيف والتميُّز، من أعظم الطوَامِّ التي تفسد عملية الإبداع ولا ترجع بأي قيمة مضافة على مسار الفكر والحضارة.
وهذا عند أهل الكيس والإنصاف لم يكن يوماً ميزاناً صحيحاً، ولا مما يضفي أي ميزةٍ على صاحبه، أياً كان تخصصه وتوجهه. وإن مظاهرَ الشهرة وذيوعِ الصِّيت بمنئى عن المثاليات والقيم العليا، إنما تظل محمودةً وإيجابيةً حين تكون شيئاً عارضاً، ومحطَّةً عابرةً، ووسيلة لا غاية.
وكلُّ نجاح خارجَ هذا النسق هو في الحقيقة نهايةٌ بئيسةٌ ومُبكِّرةٌ للطريق وبابٌ مسدود عن السير نحو الكمال يلقي فيه “الناجح” عصا كَدِّه وتعَبِهِ ويخلُدُ عقِبَه إلى الأرض في سُباتٍ لا ربيعَ له.
ويمكن القول إن هذا النوع من الفشل الذريعِ، غالباً ما يكون نِتاجاً لسبب ذاتي وآفةٍ نفسيَّة عميقةٍ، طالما تبخَّرَت عندها مواهب فذّة كانت ستشَكِّل منعطفاً مهماً في مسار الحضارة.
ذاك السبب يرجع في أساسه إلى نوعٍ من “تضخم الأنا” وغياب مرجعيَّة وقيمٍ عُليا تنئى بصاحبها عن هذا المرتع الوخيم، مما يهوي به في دركات الفشل سبعين خريفاً.
فالانتشاء بخمرة الانتصار وبلوغ أوج المجد والشهرة الزائفة، مع يقين صاحبها في قرارة نفسه ـ يقين يعقوبَ كذبَ إخوة يوسف ـ أنه ليس في ذاك المقام الذي بوأه إياه المجتمع، وإنما هو “هشيمٌ ” رُعيَ لما اقشَعَرَّت البلادُ وصوَّح نبْتُها!
وتوظيفُ انحطاطِ مسار الحضارة للتباهي ببُلغةٍ ولُعاعةٍ من العلم والمعرفة على فئات مجتمعٍ عامتُهُ في ضحالةٍ سحيقةٍ من المعرفة ودَرَكٍ أسفلَ من الفهم والتحليل، وهشاشةٍ من الفكر… غايةٌ ما وراءها غايةٌ في الرِّجْعيَّة والخبَل.
إن مسألة (التصوف المعرفي) من آكد ما يفرضه واقعنا اليوم على كل من يشتغل في حقل المعرفة بشتى فروعه وألوانه، والذي يكون فيه مولود الإبداع والتفنن رهيناً بسنينَ عجافٍ من الاعتكافِ في محراب العلم والمعرفة، والقراءة والكتابة، يُلقي فيها المتعلِّم صُداعَ العالم وراء ظهره، ويغلق خلفه نوافذ المجتمع وضجيجه الذي لا ينتهي، ويخلو بنفسه في عزلة توتي لا محالة أُكْلَهَا ولو طال الزمَن.
ولا شك أن واجب التثقيف والتعليم ونشر المعارف… قد يقال بأنه يناقض هذا المعنى بشكل عام.
فيُقال : لا ضير أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة لسدِّ ذاك الفراغ، وما أكثرهم في عصرنا! فلا نرى حاجتنا لهم بقدر حاجتنا للفئة الأخرى.
الخلاصة :
إنك حين تستلقي على وسادتِك لتودِّع هذا الوجود الفسيح لن تفرحَ حينها بكَمِّ الحفَلات واللقاءات التي حضرتَها، ولا بالإطراءات والتنويهات التي سمعتَها، ولا المناصب التي تقلدتَها، ولا المبالغ التي تلقيتها… لكن أكبر راحة ستغمُرُك وتدفِىءُ روحكَ ومرقَدك هي أنك قدمتَ شيئاً جميلاً لحضارتك ولأمتك، ووضعت نبراساً جديداً في الطريق يضيءُ مرحلة أخرى من نفق المسيرة الإنسانية لمن يأتي بعدك.