الحياد ذكاء أم استهانة وظلم للنفس؟

يعد الصراع بين الحق والباطل بمثابة صراع أزلي، عرفه البشر منذ عهد آدم، صراع البقاء والقوة والأمن والخلود، ومتوهم من يظن نفسه خالدا إلا أن يكون بعمل يذكره، والمفلح من طاب ذكره وحسن فكره وعمله.

خلال هذا الصراع يتوقع الكثير النجاة بمجرد التزامه الحياد، كأنه خلق في/أو لعالم آخر أو وجد لغاية أخرى، والحقيقة أن الظلم في أرض تهديد للعدالة في كل مكان، وأن الدفاع عن القضايا الإنسانية حماية لكل البشرية.

إن أغلب القضايا التي تهم الشأن العام يكون الحياد فيها شبه مستحيل، حيث يجب تحديد الموقف وتسمية الأشياء بمسمياتها حتى تتوسع الرؤية وتتضح، في حين أن أغلب هذه القضايا يتفاداها البعض مسميا إياها “سياسة” وأن لا شأن له بالسياسة، لكن هذه السياسة تدخل في كل شيء وفي أبسط وأتفه ما يمكن تخيله، والابتعاد عنها يعني ترك الآخرين يعبثون بشؤونه ومصيره ويظن أنه قد أمن، أو كما قال زكي نجيب محمود، “موقف الحياد هو موقف العاجز الذي يريد لنفسه السلامة والهدوء”، لكنه سيهوي بسبب من أمنهم وهم لا يأمنون ماضيه ولا حاضره ولا مستقبله، بشكل يصبح معه الصمت اختياري والسكوت إجباري، وفي مثل هذه الحالات كلاهما لا يعدان حلا، فالكلمة من أساليب التعبير عن القوة وعدم الخضوع، وهي أقوى من السلاح؛ كونها مرتبطة بالذكرى والعقل، فحتى وإن مات صاحبها ستبقى في الأذهان ويبقى ذكرها بين الناس وفي تصوراتهم وأفكارهم، لتنتصر في الأخير ويخلد صاحبها، ومهما كان محتوى الكلمة فهي ليست جريمة، والاستمرار في الدفاع عن أي مظلوم بسبب رأيه وكلمته واجب مهما كان توجهه ومهما كانت عقيدته، وإن لم تصل به رابطة سوى رحم آدم.

خلال الأزمات الأخلاقية يكون الحياد خيانة؛ لأن الباطل يقوى، وكل شخص مطالب بالبحث وبتحديد موقفه والتعبير عنه، فالظالم لا يطغى إلا بسكوت العامة، والحياد تمهيد الطريق للباطل وتشجيع له. لكن الرأي السليم يبنى على البرهان وإقامة الحجة، وأي قول لا يقوم عليهما يعد هراء، والهراء لا يحترم، لأنه هراء. ومن يدعي معرفة الحقيقة ويلتزم الصمت، وربما التصفيق للباطل، لأجل بلوغ هدف أو لأجل الحماية لا يمكن الاطمئنان له ولا الوثوق به في الحالتين، فقد فضل مصلحته الخاصة ومصلحته المؤقتة على قول الحق ونصرة المظلوم والحفاظ على الأمانة، وقول الحقيقة أمانتنا جميعا فكلنا قد حملناها، “ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون”، فالكلمة مزعجة للفاسد وتهديد لقائلها لأنها مؤثرة، لذلك لا تكاد تجد طاغية إلا وتراه يقمع كل من يتكلم، فكيف له أن يجادل ويناقش وليست بيده حجة لتفسير استبداده وفساده.

مقالات مرتبطة

إن الغاية لا تبرر الوسيلة وإن كانت الغاية نبيلة، والوصول للنجاح لا يضمنه أحد سوى مسبب الأسباب، فكيف إذا كانت الأسباب باطلة، فالإنسان غير مطالب بالنتائج بل بطريقة السعي إليها، {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى}، وهذا هو الفلاح.

فالحياد واتباع العامة ثقافة تبدأ منذ التنشئة والسنوات الأولى من عمر الإنسان، فتجد المعلم ينشر الخوف بهدف الانضباط أو الاتباع لأنه أكبر وأدرى، ويقمع كل من تمرد على رأيه بدلا من نقاشه وإفهامه، فينشئ قطيعا خائفا تابعا بدلا من إنسان يجادل في كل ما يرى ويسمع، فتقتل فطرة الإنسان الذي جعله الله أكثر شيء جدلا وصرف له من كل مثل، لكي يعلمه ويقنعه ويقيم عليه الحجة ويخيره…

في قصة نوح خير عبرة، إنه الأب الذي لم تكن له سلطة على أحد حتى على ابنه، بل كان له كلام له سلطان، والسلطان في القرآن معناه الحجة والبرهان، فلم يسيطر ويفرض على ابنه اتباعه وهو أدرى بالحق، وهو من الرسل أولي العزم، فقد قضى تسع مائة سنة في الجدال وآمن معه فقط ثمانون، فلأن الإكراه على الفضيلة لا يصنع الإنسان الفاضل وإنما الإنسان المغلوب والإنسان المنافق، ولأن شخصية الفرد، وكرامته، وعقله، وعلمه، وإيمانه، ويقينه له القدسية عند الله، فلم يُعط السلطة لرسله ولا لأحد من العالمين، وحرم الظلم على نفسه فينصر الكافر المظلوم على المؤمن الظالم. فالظلم والقمع يبدأ من أعلى الهرم، من الحاكم إلى المعلم إلى العامل كلٌّ يظلم من هم أسفل منه، فأتى الدين لإزالة هذه العبودية وجعلنا أحرارا، وسمح الله بالتشكيك في ألوهيته واتباع الحجة للوصول إليه، فكيف بمن هم دونه؟

من أعلى مراتب عدم ظلم النفس عدم الاستهانة بها، واحترام العقل بالبحث والفهم وعدم الرضا بالفساد والقهر، فلما طلب الواسطي من الإمام أحمد بن حنبل القول بأن القرآن مخلوق لكي يحمي نفسه من الظلم، رد عليه بقوله “إن كان هذا عقلك فقد استرحت”. فشكرا لأصحاب المواقف لا أصحاب الحياد، ولأصحاب المبادئ لا أصحاب المصالح، فثمن المواقف والمبادئ باهظ جدا، وهنا يكمن الإيمان والتحدي، وأسمى غايات الدين التثبت، والفهم، والجدال، ودحض الظلم، وحماية المستضعفين في الأرض.