منذ أن عودت روحي على القراءة وأدمنت تدبر الكلمات، كنت حينها أقرأ، بل وأحفظ النصوص القرائية في المقررات الدراسية، إلى أن نظمت مدرستنا رحلةً إلى معرض الكتاب بالدار البيضاء، سعدت بالخبر وصرت متلهفة للذهاب مع أنني لم أحدد لائحة للكتب ولا خططت مسبقا لاقتنائها، لطالما أحببت الصدف في حياتي! كان سني حينها لا يتعدى العشرة. وهذه مرتي الأولى في زيارتي للمعرض الدولي للكتاب، وعيناي يحملقان في كمية الكتب المرفوفة في كل مكان، أقرأ عنوان هذا تارة واسم دار النشر تارة أخرى، تدور عيناي وتبتسم شفتاي حتى غبت عن صف المدرسة لبرهة، ومن ثم وجدتهم وأكملت معهم طريقي، وقفنا عند دار نشر مصرية ولفت انتباهي كتاب ذو لون أزرق بارد وتتوسطه أنثى في صورة وجلسة رزينة على كرسي خشبي، وفوقها عنوان الكتاب “عندما كانت ماما صغيرة” أخذته وقد استنزفت حينها كل ما لدي من مال.
عند عودتي للبيت، بدأت قراءته وسرت مداومة على ذلك في كل يوم أقرأ فصلا من الرواية ثم أنام على المشاعر الدافئة التي كان يحملها. صحيح أنها رواية عادية، بل لم أجد من قرأها في أصحابي ورفاقي بعد، حتى أنني لا أجد لها أثرا على مواقع التواصل الاجتماعي أو قاعدة البيانات Google، إلا أنني أحببت تلك الرواية وأعترف دونما خجل أنها بوابتي الأولى نحو ذهابي كل سنة لمعرض الكتاب، وقراءتي دائما للروايات، والكتب والمقالات في مختلف المجالات.
مرت علي في يوم من الأيام عبارة: “فعل القراءة هو أمر يتحتم إنجازه في لبّ أمثولات نوعية بانتباه منغمس” وأنا في مكتبة آل سعود بالدار البيضاء أطبطب على أوراق كتاب القراءة والقارئ “صورة في البلاغة الأدبية” للكاتب فيليب دايفيس، ترجمة زينة الطفيلي، للأمانة دغدغت مشاعري هذه العبارة، بل كانت من أكثر العبارات حرفيا التي تعبر عن فعل القراءة من منظوري. خاصة أن القراءة في عصرنا الحالي باتت مشكلة داخل قالب الذوق العام حيث التمثلات موحدة والنقد نوعي، ولم أكن ممن يهتم بهذه التصنيفات حتى أنني لم أحبذ يوما القراءات الجماعية للكتب، لعلها فكرة جميلة إلا أنها غير مناسبة لمزاجي في القراءة.
ثم تضخم هذا الذوق العام في مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة مع بروز نخبة لا يستهان بها من المؤثرين والمؤثرات الذين يمارسون بدورهم فعل القراءة، وصار ذوقهم من الذوق العام فضلا عن لوائح أفضل الكتب عالميا وأكثرها مبيعاً ولوائح الجوائز الأدبية العالمية، بالتالي باتت القراءة تفرض نوعا من القوالب في الأذواق، يتبعها الناس ظنا منهم أنهم على الطريق الصحيح في مسار القراءة، وأن مناقشتهم وأصحابهم لهذا النوع من الكتب يجعلهم في ارتقاء دائم ضمن سلم الثقافة. كثر اللغط في هذا السياق وتضخّم قالب الذوق العام، حتى أن القراءة لم تعد اختلافا والطقوس ما فتئت تتشابه في صور وفيديويات البعض. عندها أمسكت قلمي وكتبت دون مقدمات:
الذوق العام: القراءة وكوبُ قهوةٍ على طاولةٍ أنيقة ومرتبة خصيصاً لالتقاط صورة، أليس منظرا جذابا؟
المتعة الفردية: لا، بيد أنني لا أحب القهوة ولا أشربها، ولا أقرأ على الطاولات.
الذوق العام: قراءة مجموعة من الكتب والروايات باختلافها في نفس الآن يجعلك أغنى ثقافة عند النقاش.
المتعة الفردية: أبدأ، أحب أن أقرأ دون أن أتنافس، أقرأ لأتنفّس، لأنتعش، أتحسس كل كلمة على حدة، وأتدبر كل معنى مرّ علي مستحقا الوقوف عنده. يمكن أن أقرأ كتابا في شهر وآخر في ثلاثة أشهر، الحاكم والفيصل في فعل القراءة هو إشباع العقل لا تبديد الوقت أو منافسته.
الذوق العام: لا تحكم على أي رواية أو كتاب في أي مجال قبل قراءة ما قاله الناس عنه وتقييمه في تطبيق Goodreads، حتى لا تبتعد عن الصواب.
المتعة الفردية: حقيقة صواب الإنسان هو عقله ومنهجيته في تحليل ما يراه، وطريقته في نظم الإحالات وتأويلها في اتجاه المعقولية. إذا لم يعجبك الكتاب لا تتممه، وإذا أعجبك كتاب ما مع انخفاض تقييمه لا تهمله، وإذا ناقشك آخر في ذوقك لا تجادله.
الذوق العام: هذا الكتاب مضيعة للوقت والجهد والمال -إذا كان ورقيا- ندمت عليه ندماً.
المتعة الفردية: كل حرف، كلمة، جملة، كل حركة استقرت فوق حرف ما، ستستفيد منها عاجلا أم آجلا، فلا تبخل بأحرف الثناء والمدح على البنية التي مرت عليك وهي تحمل دلالة ما، ولا تتجاهل الأفكار المطروحة بين الورق، لعلك تأتي إليها غدا مقتنعاً تمام الاقتناع بروعتها.
لا تخجلوا من قراءاتكم المتعثرة وكتاباتكم غير الممنهجة وحتى الخاطئة، هي بداية لا مفر منها، لطالما كانت البدايات مذلة، لكن النهايات دائما أكثر إرضاء. أنهيت كتابتي لهذه الفقرة القصيرة متنفسةً الصعداء، ومؤمنة بأن فعل القراءة محطة لا مناص منها لتصير بعدها ما شئت، وأن نوعك المفضل وقراءتك الممتعة لا تحتاج تعزيزا من الناس ولا تتكبد عناء التصنع للاندماج مع قراءتهم.