تهيآت من نسج الواقع

أطرق رأسه وغاص وسط الملفات يبحث عن اسمه، كان أمله كبيرا في النجاح، عاش على الأمل طوال حياته، لدرجة أنه كان إذا ما توافرت لديه حلوى تفاضل بعضها على بعض في المذاق أو المظهر، بدأ بالسيئة وترك الجيدة ليبقى فمه طيبا بمذاقها، يتبادر إلى ذهنه سؤال حول ما إذا مات قبل الوصول إلى الجزء اللذيذ، لكن أمله في الحياة و صوت ما بداخله كانا يطمئنانه بأن عدل السماء لن يميته قبل الانتهاء من أكل الجزء الجيد بعد الرديء.





شارف على الانتهاء من الملفات ولم يظهر اسمه بعد، ولا زال الأمل داخله لم يمت، رمق في عين صاحبه نظرة استسلام وإشفاق، صاحبه الذي علم أنه نجح لكنه لم يُحصِّل الميزة التي حلم بها، لم يفرح كثيرا، استهزأ بالحياة وسخرية القدر، وقلب حفلة تخرجه عزاء، في المساء أقامت أمه حفلة صغيرة للأهل والجيران، دخل متأخرا بعد أن جاب شوارع المدينة مشيا بحثا عن كلمات تريحه، قال لأمه التي فتحت الباب، لم كل هذه الضجة لم أنل سوى شهادة، لا امتياز ولا وظيفة، أمه التي لم تكن تفقه كثيرا ما معنى الشهادة في بلد لا تقدر الشهادات، وجدت أن ابنها من بين كل العائلة و الرفاق نجح على قلة الناجحين، فكانت فرصة جيدة للتباهي بمن حملت تسعة أشهر.

 

نام ليلتها بعد عناء، طوال حياته لم ينتظر يوما لائحة الناجحين، كان غالبا نجاحه أمرا محتوما، لا ينتظر سوى المعدل، وكان مزاج الصيف كله يبنى على هذا الأساس، اعتاد معدلات لا بأس بها تضعه غالبا في خانة الأوائل، ذلك ما زاد من صدمته هذه المرة، أحس وكأنما سنوات الدراسة كلها رهينة بضع ساعات من الامتحان، خلافا لصديقه كان يقول أن الشهادة تعتبر نقطة الصفر، نقطة بداية، فأنت بنيلها لم تنل شيئا بعد، بينما لدى صاحبه تعتبر مبلغ الحلم وأساس الأمل، واقعية جعلته قاسيا على نفسه وعلى الحياة، كان يؤنب نفسه إذا أخفق لدرجة تجعل أباه يشفق عليه ويواسيه، ويحرم نفسه كل أشكال الفرح.

مقالات مرتبطة






كثيرا ما يرى صاحبه ويتمنى لو يتغير مفهوم الأمل لديه، واقعيته جعلته يأخذ ما يريد من الحياة وترك ما يريد، أحيانا يوبخ صديقه قائلا ما الذي يجبرك على أكل الرديء و ارتهان الجيد، الحياة قصيرة تخلص من الرديء وكل الجزء اللذيذ، يجيبه صديقه بأن الحلوى من صنع أمه، فهو يأخذها لا يبقي شيئا منها لكي لا يجرح مجهود أمه الطيب، لم يكن يحس كثيرا جواب صديقه، عمليته جعلته لا يرى المشاعر ولا يحاول الاجتهاد كثيرا في كل ما يخص لاوعيه، هو لا يؤمن إلا بالعلم والمنطق البحت، صاحبه غالبا ما يشغل باله بأسىئلة من قبيل و هل يعلمك العلم كيف تعامل الجيران ؟ حاول عبثا ايجاد معادلة أو خوارزمية في طريقة معاملة الناس، لكن الناس يختلفون باختلاف لاوعيهم و جيناتهم و لم يجد شيئا منطقيا يجمعهم، فبدأ يعامل الناس معاملة الأشياء.

 

يصعب عليه أن يرى مدربا في تطوير الذات بكرش، لم يستوعب يوما كيف لرجل بدين لم يقاوم رغبات شهوته البطنية أن يملي عليه نصائح في تطوير ذاته، أو أن ينصت لمفتي أو عالم دين لم يبرع في مشواره الدراسي و تحصيله العلمي ضئيل وخطبه مليئة بالأخطاء اللغوية الساذجة، في دراسته اضطر إلى العمل مما دفعه إلى الدراسة في أيام السبت والأحد، فكان يهزأ بكل أولئك الأساتذة المبجلين، كان يقول لو كانوا جيدين إلى هذا الحد و حياتهم رغيدة لما اضطروا إلى العمل أيام السبت والأحد، كان يحب مشاكسة أمل صديقه ويسأله مستهزءا ماذا لو لم يكن هناك جنة و نار ؟ فيجيبه أكون قد عشت حياة معتدلة في ظل الإسلام، فالحياة عبادة، لك أن تعبد الله أو تعبد الشهوات، في الأولى اتزان وحرية وفي الثانية تخبط واستعباد.

 

ظل صاحبنا يصارع الأمل في حلبة الحياة، باحثا عن القاضية، يضرب بيد من العلم و يد من المنطق، وتخر قواه أمام عدالة القدر، يندهش لرؤية جاهل غني ومثقف فقير، ولا زال صاحبه يبحث بين ثنايا ملفات الأمل عن خيط يتعلق به ولو من نسج الخيال…