- هل سبق أن انتبهتَ كيف تنطفئ الشمعة؟
- نعم
- كيف تنطفئ الشمعة؟
- ألا لك يبدو لك هذا السؤال عادياً، أو لنقل تقليدياً!
بل أقول إن فكرة انطفاء شمعة أصيلة. عندما نرغب في التخلص من الأشياء نُخبر العالم أنها تقليدية. دعني أسَمّيها أصلية. عندما يقول شخص مثلا: ”انطفئت الــ…” أو ”لقد أطفأتُ الــ… ” أيَّ يكن هذا الــ…؛ تقفز دائماً إلى الذهن الــ…شمعة من العدم، حتى الذين لم يسبق أن أرسلتهم والدتهم إلى محل البقالة جراء انقطاع الكهرباء، يتخيلون هذا الـ… شمعة تنطفئُ. ببساطة غريبة حيثما كانت شمعة ثمة انطفاء ماَ.
هل يجب أن أتوقف عن كتابة هذا الهراء؟ يكفي! لكن بربك، هل انتبهت كيف تنطفئ الشمعة؟ تنطفئ الشموع على نفس النحو! وسواء انتبهت أم لا فإن الأمر يحدث – سواء أكان الأمر متعمداً أم لا – على النحو التالي: ترتعش الشمعة؛ ليس لأنها تشعر بالبرد (نحن لم نسأل الشمعة لماذا ترتعش) يبدو أنها ولدت هكذا، أعني أنها ولدت ترتعش، ربما خائفة.
تنطفئ الشموع عادة وفق مصادفة – ودائماً سواء أكان الأمر متعمداً أم لا – مع نفخة هواء أقوى من رعشتها … ثم، هكذا تنطفئ!
تُحافظ كل الشموع، من حيث المبدأ الأصيل على هذه الرعشة حتى عندما لا يكون رأسها مشتعلاً. تحافظ على ترددها البادي وارتعاشها الأصيل ودموعها إذ تذوب. كيف عرفتُ هذا؟ عندما كانت أمي تُثبتها، كانت تستغرق وقتاً طويلاً لأن تجد المكان المناسب كي تقف – من المهم بالنسبة لأمي وللشمعة على حد السواء أن تظل واقفة – بما يناسب رعشتها. القصد من ذلك أن نعثر على مكان يحتضن هذا التردد الخائف وعندما تنجح أمي في إيجاده (وهذا ينطبق على كل الذين يَهُمّون بإيقاد الشمع) تبدأ الشمعة في الاحتراق. تولدتَ رغبة الشمعة في الانطلاق والاحتراق من هذا المكان التوازن والأمان من السقوط.
- أخمّن دائماً أن الأشياء المتوازنة، والآمنة تنطلق..
- هلوسات… لا، الأشياء المتوازنة لا يحدث لها شيء!
- والآمنة؟
- لم يحدث لها شيء، أو على الأقل لم يحدث لها شيء بعد!
- هل ترى رعشة اللهب فوق الشمعة؟
- إنها الشمعة وليست النار.
- يقول الكيميائيون الذين يصدقون حواسهم فقط: إنه الهواء الذي يحرك هذه النار وهو الذي يدفع في اتجاه الاحتراق، هكذا درسنا في حصص الكيمياء.
- لكن انتبه! لا يخبرنا الكيميائيون كثيراً عن الانطفاء. أليس هذا غريبا؟
لكنني سوف أقفز على هذا المنطق، واسمح لي أن أحكي لك ما يحدث بالضبط: الشمعة هي من ترتعش أولاً ثم وبتعاطف ما من النار فوق رأسها تبدأ في التمايل مثل امرأة تمارس الغواية. صحيح أن الشمعة وبكثير من النّبل لا تشتكي من الحرق لكنها وبرغم انطلاقتها تظل متوترة على نحو يصعب بيان مكامن المعنى فيه. خليط من التوتر والنبل والبهاء ومن تقاعس مكتب الكهرباء.
تواصل الشموع رعشتها بينما تحترق. إنها ماهرة في اختبار قدرتها على الصمود، وتجعل الأمر يبدو وكأنه تضحية، التضحية التي نعرف جميعاً – أعني نحن والشموع وأمي والبلدية وفي حالة خاصة قوات الإطفاء – نهايتها… خلافاً نحن البشر، عندما ندفأ، لا نرتعش، كُنا نحضن بعضنا البعض في البيت لأننا آمنين ولأننا لن نسقط.
يحزنني، وأنا الصبي في السادسة من عمري، ألا يكون بمقدوري احتضان هذه الشموع التي تحترق.
تقول السيدة (آيـَام): لا تحتضن محترقاً، سيحرقك… قالت هذا وكانت تبكي.
- لكن لماذا تصبح العناقات زائدة عن الحاجة بعد الانطفاء؟
- كنتُ طفلاً ولأنني مثل الشمعة، لا أسأل. الأسئلة صعبة ولأننا تعلّمنا نوع الكلام الذي لا يجيب عن هذا!
كبرنا قليلاُ وغيرنا أشكال الشموع، وضعنا لها ألوانا، ضخّمناها وجعلناها تبدو شموعاً أكثر وأدوَم. أضفنا إليها الروائح، رائحة الليمون والبنفسج، رائحة السيدة لورا أميرة ساردينيا؛ رائحة الحقول في “ايسي خا” بدو بوليفيا؛ لكننا تغافلنا عن أنها في النهاية: شموع … ونعم، ستحترق! كان هذا خداعاً بشرياً معتاداً ومستمراً، وتحسيناً لشروط الاحتراق دوناً عن شروط الانطفاء وكأننا نقول: الآن يمكنك أن تحترقي أكثر! ألصقنا بها كل الأوهام الممكنة. رغم كل شيء، صدّقتنا واستمرت في الاحتراق. يُخيل إليّ أحيانا أننا وضعنا كل هذه التغيرات لكيلا ننتبه أن هناك شيء ما يحترق ويرتعش ويتردد ونقول: إنها رائحة الشموع، إنها رائحة البخور، إنها رائحة العود والليمون والبنفسج والسيدة لورا أميرة ساردينيا وحقول “ايسي خا” بدو بوليفيا. إن هذا الاحتراق هو أعظم مغامرة وجودية بالنسبة للشمعة، وبالنسبة لنا، نحن البشر يتبدى لنا عالماً من الرمزيات والاستعارات التي تحفظ اسطورتنا الخاصة. أليس الانطفاء إذن بهذا المعنى شرطأً ضروياُ لحسم التناقض، أي تناقض، حتى لو كان هذا الحسم يقتضي حالة الاحتراق في ذاتها؟
- هل ترى كيف يتحول احتراق إلى مجرد… رائحة!
- أرى..
ما زالت ترتعش وتمنحنا كل هذا الدفء، والروائح، فوق المناضد كانت تحترق من فرط الانتظارات، وفي الأعراس كانت تحترق من أجل امرأة ورجل كلاهما لم يتزوج من يحبّ، واحترقت في الجنازات من وفاة مفاجئة. كانت في العشاءات الرومانسية تحترق وهي تدق السمع للوعود والانتظارات والفِخاخ التي ينصبها العشاق وهم مبتسمون ببلاهة البدايات؛ وفي مستوصف القرية ساعدت الطبيب كثيراً وهو يحاول كتابة تقرير لامرأة لم تسعفها الحمير والبغال وهمة الرجال وسيلان الوادي أن تُنجب ابنها… وماتا في الطريق جراء نزيف داخلي وشمعة.
لقد منحنها كل هذا ثم جعلناها تحترق وترتعش طويلاً وببطء، والأهم: واقفة!
- هل أنهيت؟
(…) دعني أخبرك أمراً مهماً: رغم كل هذا تتشابه الشموع. ولكن الانطفاءات تختلف، قد يبدو لك الأمر غريباً، لأنك منذ البداية عرفت كيف تنطفئ الشموع، ولكن صدقني الانطفاءات تختلف. يختلف انطفاء الشمعة بعد ليلة أرق طويلة، كان يعني هذا أن حائراً وسينام – تطير الشموع من الفرح والانطفاء – أما انطفاء شمعة عيد ميلادك أسمّيها حسب وضعك في اللعبة، لو كنت سعيداً سمّها امتناناً، كنت الحائر الذي يحبه الأرق فهي اقتراب من الموت. وحدها نفخة السيدة آيَـام على شمعة ميلادي كانت تبدو عناقاً، قبل أن تتحول إلى وهم. والوهم يقود كل الرجال للإنطفاء. أما الشموع التي تنطفئ وأنت تمشي في الليل مثل أصحاب موسى وأخيه فهي التيه وقد تاهوا أربعين عاماُ.. تخيل. الشموع التي تُطفئ فوق الأجساد تعني دائماً أن ثمة من يدفع ثمناً ما… هو يعرفه.
هكذا، تختلف الانطفاءات، وحدها الشموع الباردة التي لم تشتعل من الأساس، أو التي أتعبها اللهيب قد فهمت اللعبة وتوقفت عن الاحتراق وأخمّن أنها غير مبالية الآن بمن يحاول أن يمنحها شعلة ما. يبدو أن منطق الشموع قد ألزمها اللامعنى في الاتجاهين، أعني في الاحتراق والانطفاء، كلاهما سواء وما دامت هذه المعاني قد اختفت، فما الحكمة من الاحتراق وحيداً واقفاً ومرتعشاً ومتردداً وخائفاً من نفخة هواء تبدو لطيفة ولكن نهايتها تعني حتما.. نهايتك!
- هذا يبدو حتمياً دائماً؟ ذلك أن كلا الحالين على قدر متساوِ في الوجود.
- يبدو كذلك، لكن الشموع تتساءل دائماً عن الرغبة المتكررة في أن تكون موضوع انطفاء، يؤلمها أن تمنح شعلة ثم تُطفئ لأسباب لا تبدو منطقية، لغضب عابر، أو صبيانية الأطفال في اختبار الاحتراق.. سيكبر الأطفال ويفهمون ألم الحرق، المعنى من وراء ما تحترس منه الشمعة، ولكن ليس الآن.. الشمعة لم تكن لتقول شيئاً: لم تتعلم الشموع الاحتجاج، لأنها لقّنت الصمت ولأنها تدفع الاثمان مجانـاً.
-لكن في النهاية تنطفئ أليس كذلك؟ ولم تُخبرني للأن كيف تنطفئ هذه الشموع يا ولد ؟
لقد أطلتُ هذه الثرثرة ونسيتُ أن أخبرك كيف تنطفئ الشموع. تنطفئ الشموع في نفخة واحدة ودون مقدمات. ولا شيء يحدث بعدها. صحيح أن نور البلدية يعود ولكنني كنت دائماً وكما أفعل الآن: أبكي كلما انطفأت شمعة. في عالم آخر كنت سأكون شمعة.. ربما.