عن روح المرح عند العلماء والأدباء

0 2٬112

كل من يفتقر إلى حس المَرَح والفكاهة في أخلاقياته وسلوكهِ فمن المستحيل إلى أبعد الحدود أن يُصَنَّف مِن وِجْهَة النظر الأدبية في خَانة أهل الأدب البارزين.

فمهما تعددت المشاربُ، واختلفت الرُّؤى والتوجُّهات، وَتَنَوَّعت الموارِدُ والمَصَادِرُ، فإن الدُّعابة تظَل قاسِماً مشتركًا يتخلَل كُلَّ أصناف الأدباء على اختلاف أشكالهم وألوانهم، وَمَهْما حاول المرءُ أن يجْعل من نفسهِ أديباً عاقِلًا أو شاعرا تتفجر الحكمة من عباراته وألفاظه أكْثر ممَّا ينْبَغِي، إلَّا ويخْرُجُ عَلى القرَّاء بِكَلَامٍ مُتقَعِّرٍ باردٍ عليه غَبَرَةٌ من التَّكلُّفِ فِي مِسْلَاخِ الْحِكْمَةِ وما هُو منها في شَيْءٍ.
لَا يَعْني المرح والفُكَاهَةُ هُنَا أن يَنْجَرَّ الأديب إلى حظيرَة النَوْكَى والمَخابيلِ حتى يكونَ أنسب محل له هو إحدى بُيُوتَاتِ الْمَارِسْتَانِ، وَدور الحَمْقَى والمُغَفَّلِينَ، ولا خلاق له من العقل والرزانة، وَإنما أن يَحْظَى بِشُحْنَةٍ هَائِلَةٍ من السُّخْرِيَة والضَّحِكِ بالمَعَانِي قَبْلَ الْأَلْفَاظِ، تُولِجُ القَارِىءَ الْمُتَمَكِّنَ فِي مَوْجَةٍ مِنَ الضَّحِك تَكَادُ حِينًا تُقَطِّعُ أَمْعَاءَهُ.
لَعَلَّ نَظْرَةً خَاطِفَةً عَل كُتُبِ الْأَدَبِ البارِزَة، قديمِها وحدِيثِها ليُظْهِرُ لِلْقَارِىءِ ويتَوسَّمُ من خلالهِ مَدَى مَا كَانت تَطْفَحُ بِهِ أرْوَاح ُ أولئِك الكُتَّابِ مِنِ أدبِ السُّخْرِيَةِ والضحكِ، وعلى رأسهم “الجاحظ” من أهل النثر، و”ابن الرومي” من الشعراء، تمثيلاً لا حَصْرًا.
وإنك لتَقرَؤ أحياناً لأحدِهِمَا فَلا تَدْرِي متى تَنْفَجِرُ ضَاحِكًا بِلَا شُعُورٍ. وَمِثْلُهُما من المُحْدثين : الرافعي والعقاد، وغيرهما كثير..

george_carlin_commission_by_ayaspiralout
جورج كارلين (1937 – 2008) كوميدي أمريكي وهو أيضا ناقد اجتماعي وممثل وكاتب

ويمكن أن يقال : إن أدق المعايير التي يُمْكِن أن نَسْتَشِفَّ مِن خلالها حنايا روح الأديب المتمكن الناجحِ، هي مقدارُ تَأَثُّرِهِ بالمَقَاطع والنِّكاتِ المُضْحِكَة في فصيح الشِّعْرِ ونَثْرِه،
ولا نُبْعِدُ النُّجْعَةَ وَنَحيد عن الجادَّةِ إن أوْرَدْنَا هُنَا المَقُولَة المنسوبَة للإمام الشافعي :
“من استُغْضِبَ فلَمْ يَغْضبْ فهو حِمار” إذْ بِــ”قياس العكس” يصح أن يقال “مَن استُضحِكَ فلم يضحَك…” فإن لم يكن حماراً إِلَى ذلك الحدِّ فَإن حَظَّهُ مِنَ الْحِمَاريَة وافر الذيلِ غَيْرُ قَلِيل.
إِنَّ من يُحاول من الأدباء والشعراء استجداء عَطْف القراءِ والجماهيرِ بسُحبٍ قاتِمَةٍ من الحُزْنِ وصوَر الْآلاَمِ وشهقاتِ الحبِّ والعِشْقِ البائسَةِ مما تَعَاوَرَتْهُ أقلام الكُتَّابِ قَبلَهُ آلاف المرات، عازِفاً بذلك على الوتَرِ الحَسَّاسِ هُو إِلَى حدٍّ ما فَاشِلٌ أَعْيَتْهُ الْوَسِيلَةُ وَتَقطَّعت بهِ السُّبل للوصول إلى الجمْهُورِ من القُرَّاءِ.
إِنَّ خاصِّيَة الإنسان وحدَّه الفاصل عن الحيوان باعتباره “الحيوان الضاحك” ـ كما عرَّفه بَعْضُ الْمَنَاطِقَة ـ لَيشكِّلُ حافزاً مُهِمًّا لِتَكْرِيسِ هَذَا النَّمَطِ مِن ألوان الْأَدَبِ ذي النَّمط الصعبِ، بَعِيداً عَنْ رُوتِينِيَّةِ الْحُزْنِ والبُؤْسِ.
ولا غَرْوَ أَنَّ لِبَعْضِ الْقَضَايَا مَنْحًى وَمَغزًى يَسْتَلزِمُ الجِدِّيَّةَ في الأسلوبِ بَلْ وَالعِبَارَةَ الْحَزِينَةَ أَحْيَانًا، لكن هذا حَيِّزٌ ضَئِيل وبَسِيطٌ مِنْ مَجْمُوعِ القَضايا التي تتناولها أقلام الأدباء والشُّعَرَاءِ.
وليس بالضرورة أن يكون نوع المَكْتُوبِ “مُخِلًّا بالْحَياءِ” وذا عِبَارَاتٍ لا تلوكها إلا ألسنة الفَسَقَةِ الفَجَرَةِ، بل العَكْسُ تَمَامًا، وَهُنَا تَكْمُنُ وُعُورَةُ هَذَا الْمَسْلَكِ منَ الأَدبِ، وإن استدرار قطرات الدَّمْعِ والأسى من عيون القراء والسامِعين لأهوَنُ بِكَثِيرٍ مِن إظْهَارِ نَواجِذِهِمْ بَلْ أَضْرَاسِهِمْ من الضحك.