قراءة في رواية أرض السودان الحلو والمر لأمير تاج السر

1٬041

لم أكن أعرف عن السودان شيئا إلى أن صادفت طريقا يصف حلوها ومرها؛ فما ترددت في تتبعه لأكتشف كاتبا رائعا وقاصا مبدعا لا يلتوي في سرده بل يجذبك لتقرأه؛ فتكره أن تحبو ببطء بل تطمح أن تخطو من صفحة لصفحات منتشيا بمشيك أكثر من امتطائك دابة تطوي لك الطريق غير متمنيا نهاية الرحلة معه.

نحن كما جلبرت أوسمان لا نعرف حقيقة السودان؛ حيث تكلف الكاتب الطبيب الأمير تاج السر الذي ابتلي بجرثومة الكتابة بتعريفنا بهذا البلد في ظروفه العصيبة، هذا القلم السوداني يتميز ببساطته وإبداعه وسلاسته مستعملا فصحى سليمة سردية؛ فروايته هاته رحلة ممتعة تكشف نظرة المحتل لأرض وضع يده بالغصب عليها لطالما يرى تفوق بلاده عليها.

ليقرر فجأة أوسمان بسبب حادث عرضي مع صديقه الذي رفض الذهاب إلى السودان بعد أن كلف منتدبا فيها ليصفه جلبرت في حالة سكر أنه أجبن من قطة لأنه رفض الذهاب إلى هناك زاهدا فيها لمناخها ولتخلف أهلها وفقرها. بسبب حماقة تلك الليلة قرر جلبرت في الثمانينات أن يكون شجاعا ويزور السودان. فذهب بطلنا لخوض الرهان حاملا معه عقلية مستعمر، مسلحا بتخيلات يعتقدها معرفة ثابتة، ليفاجأ بعالم آخر، ولكن الرواية لم تبرع في وصف دواخل البطل وتغير نظرته ربما عن قصد أو عن سهو.

أطلق عليه فيما بعد اسم عثمان الإنجليزي وهو الشاب الضائع الذي كان يعيش الحياة بمغامرته الطائشة وهو من أصابته على حين غرة خمرة خوض التجربة بسبب تحدي صديقة لمعرفة أرض السودان عن قرب. قرر أن يزورها وهو منتشٍ بتفوق بريطانيا وطبعا ستكون يده العليا في بلد ما زال ينهب وما زال متخلفا لأنها مستعمرة إنجليزية تحت وطأة بلاده.

بدأ بالاستعداد إذ جمع بعض مدخراته وترك بعضها عند أهله لوقت الشدة، ثم تسلح فكريا إذ بدأ في قراءة الكتب حول الموضوع. لكنه وجد مؤلفين مهووسين، يأخذهم الخيال واللامنطق وزهوهم بالنفس فيظلمون وصف تلك البلاد فما وجد إلا كتبا عن حيواناتها وعن رقيقها واستغلال مواردها وعادات نسائية مشهورة بها.

فبينما هو يبحث؛ وصل عند الخباز الذي ما كان يوما خبازا بل إنجليزيا عمل في منظمات إنسانية اغتنى فجأة وتحوم حول مصادر ثرائه الشكوك، غالب الظن أنها حصيلة تجارة الرقيق بعدما غاب عن إنجلترا عائدا من السودان بكنوز وهو المعروف باضطرابه العقلي. الذي نصحه بعد تعليمه لأسس اللغة العربية أن يستقر في نزل مستكة وهو نزل في الخرطوم تمتلكه سيدة جميلة راقية ذات شخصية جذابة وقوية تعمل على تسييره بإحكام وتستقطب أجانبا وشخصيات عامة يجهل ماضيها وتحسدها العيون على نجاحها.

قبل أن يحل ضيفا في نزلها، ودع والده ومعارفه الذين لا نرى لهم حميمية مع البطل، هل تراها سطحية العلاقات الاجتماعية في البلاد الأجنبية أو شح تعبير فقط؟

في البداية؛ خاض رحلة بحرية من موطنه مع أشخاص من أجناس مختلفة تعرف فيها على ملكة الجمال والمغني القصير وعن القبطان وشخصيات أخرى، وروى فيها كيف تظاهر هو أيضا بزي الرحالة المغامر وهو لم يخبر بعد أو لم يرتحل من منزله قط، ولكنه أثار ابتلاع الكتب وتجرعها ببعض المبالغات لكي يبهر أيضا إلى أن تفرقوا في ميناء الإسكندرية.

هناك سيبدأ قدره الجديد في باخرة نيلية أخرى ستنتقل من النيل إلى أرض السودان. لقد كان الأوروبي الوحيد في الباخرة مع السكان المحليين، حيث هناك توطدت علاقته بالبعض وظل مع البعض الآخر متفرجا من بعيد. من أمثال سيف القبيلة وجبريل الرحال وبطرس، حين وصلوا إلى وادي حلفا سينفرد حينها فقط بسيف القبيلة ويقضي معه أول ليلة ثم تستمر صداقتهما فيما بعد.

سيرافقه في قافلته التي تتوجه إلى العاصمة سيرصد معه مواقف شجاعة وسخاء ومحبة وأيضا نزواته وطقوس السودانيين في الحياة. وما إن وصل إلى الخرطوم حتى لاحظ أن الأوروبيين غير الأكفاء في استغناء في بلاد السودان؛ فالفاشل في بلده سيد في السودان فقط لتحضرهم وتمدنهم، وأن العبودية منتشرة في تلك البلاد وأسيادها أجانب مغتنون من تضخ لهم مبالغ التجارة وتحسس أن معاملات المستعمر فيها شيء من الاستعلاء والظلم.

أوصله سيف القبيلة الرجل الذي توطدت علاقته معه حتى النزل المنشود؛ ومقارنة به لم يكن عثمان ذا كاريزما فقد ظل طوال الرواية في الهوامش باستثناء قرارات مصيرية تجرأ على اتخاذها. حين أقام بالنزل قابل شخوصا عدة من مستكة وخدامها وأهمهم عبد الرجال ودنيا واحتك مع الكونت جبريل في كل مرة يواري فيها زوجته فردوسة وشخصيات عدة في عيد الخميس من أهمهم الطبيب والخياط وزوجته والتاجر وشريفة.

الشخصية الرسمية في الرواية لم تكن عميقة ربما كما أي مستعمر ليس له من العمق والباطن ما ينضح على الظاهر. بينما شخصية سيف القبيلة هي شخصية من طراز رفيع رغم تناقضاته تاجر ناجح وشخصية مهابة محبوبة رزينة ذات مبادئ حتى مع الجمال، تفقه فن العيش وتستطعم نكهة الترف وإن كان لكل جواد كبوة فسيف القبيلة الحازم المحترم سلبت لبه ونقوده غجرية، الأمر الذي لم ترضه كرامته مهددا بقتلها وهو الحكيم الذي يلجأ له في الشدائد هو الذي كان حليما مع جبريل متسامحا إلى أن ترك القدر من يصفي ثأره.

كان جبريل فيه بعض التعالي الأحمق؛ إنه ذو بنية قوية ولكن ثقته مهزوزة بنفسه التي ترجمت على شكل غيرة مفرطة على زوجته إذ حرمها التنفس وجعلها عارا يجب أن يحجب، فلا يعرف حتى اسمها. ولم يفكر يوما أن ضعفه باد للعيان فالقوي تجهل مواطن ضعفه ولا يحاول إثبات قوته. أما شريفة فتاة الجن؛ الشخصية الغامضة التي لم يجرؤ أهل الخرطوم على الاقتراب منها للهالة الغيبية التي أحاطوها بها، فأصبحت اسطورة تنسج حولها الحكايات؛ وخرافات تتوالد وتتكاثر حولها نظرا لهيئتها ولغرابتها فلم يعرف مفتاحها إلا الزائر الغريب.

وأضاءت الرواية على نقطة مهمة جدا وهي العبودية ونفسية الرقيق واستغلال السيد لهم، فلم يفكر أحدهما فيمن أعطى للحر حريته ولم يطعن الآخر في تدبر سبب سلبها حريته؛ تجد أحدهما يتآمر منذ أن يفطم والثاني مسخر تعلم الخدمة وأصول الرق منذ أن ولد؛ فيسمى بأقبح الأسماء، ومهما حلم وتمنى وأصر على حريته الأسير والعبد لا يستطيع أن يحلق فقدْ فقدَ جناحاه إرادة الطيران؛ فأول مرحلة ليست الانعتاق من العبودية بل ماذا تستطيع أن تكون غير خادم وأن السيد إن لم يأس على الرقيق فهو في نظره يكسوهم ويطعمه ويأويهم مقابل خدماتهم، كانت السودان طبقتين اجتماعيتين رقيقا وأسيادا.

وسلطت الرواية الضوء على قمع وتخلف السودانيين وعدم استعمالهم المنطق وإيمانهم الشديد بالخرافة. ولكن رغم ذلك يآخذ عليها عدم الغوص أكثر في السودان رغم أن الكاتب تاج السر سوداني المنشأ. ومر عبر موقف عثمان بعتقه الرقاب واعتناقه الإسلام أنه دين تحرر الشخص من ملك الأعناق، فلا أظنه كان سيفكر في تحرير العبيد لو ظل مستعمرا.

الأجمل في الرواية بعد تحرر عبد الرجال والعجوز وتغيير شرفية ودعم مستكة وإسلام عثمان وموت جبريل وانعتاق قاتلته منه وغياب سيف القبيلة، ستعيش أحداث الزفاف كما هو وستنتظر الحياة الوردية لهذين الزوجين ولكن في أسطرها الأخيرة سيتوقف دماغك وتصدم للنهاية غير المتوقعة. وسترجع للأول وتتساءل عن عالم ما وراء الطبيعة. وسيصبح عثمان مفعولا به فالضيف لا يصبح أبدا من أهل البيت مع أهل البلاد الغيبين.

لقد ظهر بمظهر المغامر مع شرفية التي عرف سرها ورسم جمالها بريشته ونحث أناقتها بتصاميم انتقاها وصنع مستقبلها حين غير ماضيها. فصيرها زوجته؛ ولكن هل شرفية جنية أم بشرية؟ سيبقى سؤالا دون جواب سيلغي معه منطق المحتل سذاجة صاحب الأرض. ورغم أنه صور السودانية مستكة سلطانة خرطوم شخصية ذات نفوذ أيضا؛ رصد لها أسرارها التي تمنعها وجاهتها من الاعتراف بها. فلم نعرف سرها فما هي صلتها بفتاة الجن؟

تعرفت على تاج السر وعلى بلاده في حقبة احتلالها العصيبة ولكن السودان ما زالت مغتصبة مهملة يطمع في خيراته: قطنا؛ سمسما، صمغا، فولا سودانيا وذهبا وأشياء أعمق، ما زالت أرض النوبة توصم من مستغليها بأنها أفشل وأفسد دولة تعاني أزمة وقود وهي من تنتج نفطا وتتسول الغذاء وهي سلة غذاء العالم. نعم، إن السودان ما فتئت تئن وتعاني ولكن أمثال الطبيب الكاتب أمير تاج السر قد يضمد بقلمه بعض جراحها.