من فينا التالي؟

نقف في طابور طويل في قاعة كونية أشخاصها متعددو الجنسيات ومن كل الفئات، ننتظر دورنا لنرحل واحدا تلو الآخر وأحيانا أخرى نرحل ثُلَّة بِثُلة. نسافر فرادى دون حقائب.. يرحل الرضيع والعجوز مع الشاب في نفس اللحظة وتتحرك الطوابير بكل صف.. لا سرعة تحكمها، لكنها رحلة مستمرة لا تتوقف.

توقيت رحيلنا في علم الغيب والوقت الذي ما زلنا نملكه لا نعرف مقداره غير أن الفرق بيننا، هو أن هناك من تسرع رحلته ومن تبطيئ، لكن الكل يتفاجأ. هي رحلة صعود للسماء تظن لوهلة أنها فوضى حيث يسبق فيها المعافى السقيم وقد يسبق الولد الوالد ويحير في تفسير أسبابها المنطق. لكن المشترك فيها أنك تترك مكانك هنا وتملأ حيزا في حفرة ما.

ما يتشابه فيه المنتظرون في هذه المحطة، أنهم مسافرون فرادى دون أهل، دون جاه، دون بزات مملوءة بالرتب، دونما مال، بلا مؤنس، وبلا كتاب وبلا هاتف. تنسى رحلتك المقدرة بمواقيت مضبوطة تجهلها أنت ويعلمها حكيم مدبر، فتزاول أعمالك حتى يهتف هاتف يناديك بأحب الأسماء لديك؛ كتب عنده أنك الراحل التالي، تضطرب.. كيف حدث ذلك؟ كيف أكون أنا؟

لكن لا وقت للاستفسارات والتساؤلات، فقد نفذ وقتها وستقبض دون أن تتأخر بمقدار رمشة عين ولن تفوت ميعادك بمقدار رمشتين. راحلا تاركا خلفك طابورا مليئا بالمنتظرين الغافلين مثلك وراءك. وقليل منهم من يترصد ذاك السفر بلهفة لانه أعد له عدته. وأغلبنا طال عليه الأمد فغفل عن الاستعداد.

هناك من يقترب دوره فيظن أن رقمه التالي فيجتهد في الطاعات فإذ بلطف إلهي يسبقه، من كان يظن موعده بعيدا.. فيطول عليه الأمد أكثر ليذنب ثانية، وهكذا دواليك بين توبة وغفلة إلا أن يقبض على حال منهما. وهناك من يعيش الحياة ببساطتها، ركبة وشربة ووجبة يعقبها نومة خفيفة ويتناسى نومة عميقة لا استيقاظ منها هي بمثابة سلك طريق طويل لا رجعة فيه إلى حياة أخرى.

نعيش مرارة الوداع وغربة فراق الأحبة حين يدفن أحدنا الآخر.. نتكاثر لنضمن من سيكرمنا بحفرة بعد أن يطبع على جبيننا قبلة ويترك لنا في الأعياد وردة.. ونخاف أن نرمى على الطريق إذا لم نحظ بوريث.

ننتظر دورنا في ذاك الطابور دون أن تكون لنا تذكرة تحوي زمن أو سبب أو وسيلة الرحلة.. نتناسى ما شغلنا به، وما أن يحين دورنا يتحشرج حلقنا وتتخشب أجسادنا وتحيد أبصارنا ليمر علينا شريط أحداث حياتنا، وندرك أننا ضعنا حين تأملنا أننا غفلنا حين اعتقدنا أننا خُلِدنا وما ينبغي للمسافر خلود والخلود البشري توأم الغفلة.

فالثبات ما نرجو حين الرحيل والعفو ما نسأل إذا رسبنا في الامتحان. فيا نفس قللي الأمل واكثري العمل وعودي لرشدك تائبة لعلك ترحلين راضية مرضية لا خائفة ولا متوجسة قبل أن تفاجئي بميعادك ويهتفوا عليك: أنت التالية! وتسألي ماذا فعلت في تلك الدار الفانية؟

1xbet casino siteleri bahis siteleri