قراءة في كتاب رسائل حب مفترضة بين هنري ميللر وأناييس نن لليلى البلوشي

3٬674

قراءة في كتاب رسائل حب مفترضة بين هنري ميللر وأناييس نن لليلى البلوشي (ليلى عبد الله 1982) عمانية الأصل هي كاتبة، شاعرة وناقدة أيضا.

كتاب رسائل حب مفترضة هو كتاب في أدب الرسائل في حوالي 360 صفحة، اعتمدت كاتبته على طريقة ذكية وفنية من خلال اعتمادها أسلوب الاستعارة بكاتبين مشهورين، لتنسج حوارا بين شخصيات مفترضة كوسيلة للتحرر في الكتابة وللتعبير من خلالها عن اعترافات ذاتية وإيصال صوتها الداخلي من خلال شخصيات من خيالها، تحركهم على مزاجها لتنقل لنا من خلالهم صورة على عقد مجتمعية دفينة وفوضى عارمة لتزيل بدورها الستار عن فضائح وبحر من المعاناة، وتسلط الضوء على ظواهر اجتماعية عميقة وطابوهات متجذرة، متشعبة، بائسة ومتخلفة أيضا، محاولة كسر قيم المجتمع النمطية والسائدة عن المرأة والرجل على حد سواء، من خلال تعرية الواقع وكشف الفضائح بكل أريحية من خلال هذه الشخصيات الافتراضية، معتمدة تقنية السرد وقد كان سردها متميزا ومتكاملا يضم أحيانا كلاما شعريا ورنانا بطريقة سلسلة وبسيطة . تحكي من خلاله عن مجتمع لا قيم له ولا مبادئ، مجتمع يلملم على أناه، مجتمع متناقض منافق، مجتمع يقدس التقاليد والماديات، مجتمع يبلد المشاعر، مجتمع انتشرت به قيم مشوهة غير التي يغرسونها في أطفالنا في المدارس بل هي غابة حيث يشرب المرء من دم أخيه حسب تعبيرها. حيث يظهر للقارئ أنها عبارة عن قصة غرامية بسيطة عن الحب إلا أنها في الواقع تتجاوز ذلك، حيث إنها لا تتوقف عن تمرير دروس عديدة ونقد ثاقب بين الأسطر منتقدة الواقع المر وقد تم التطرق إلى مواضيع عديدة حول عبثية الحياة وجنونها الألم، الحب، الأب، الكاتب، الكتابة، القراءة، المرأة، الرجل، المدرسة، المجتمع، الأحلام والإصرار أيضا، سنقوم بالتطرق لكل منهم على حدة على شكل أفكار ودروس قصيرة للعبرة.

الحب لا يعطى كله، فليس كل من نحبهم جديرون بقلوبنا كما أنه ليس كل من نحب يبادلوننا الشعور نفسه أو يستحقون قلوبنا فعلا، كما أن هناك كائنات تتلون كالحرباء وسامة كالأفعى لهذا يجب علينا أن نكون حذرين كما كتبت على قوله: «هم متوحشون ولكن برقي خدعونا بأقوالهم، بمكانتهم الاجتماعية، بأصولهم البشرية».

وكتبت على قوله أيضا: «سأقول لابني عندما يقذف إلى هذا العالم، أغدق مشاعرك على الحيوانات السائرة ولا تغدقها على حفنة متخاذلين من البشر كي لا تكون بقعة عسل يلعقها الذباب.» وكتبت أيضا على قوله: «لا أطيق هذا الركام من الخداع، ومن لم يحترق بالحب فلن يعي بمعناه الحقيقي.»

فالحب فعل ثوري يبقى وامضا في قلوب شجعانه، قادر على أن يقتلنا أكثر من مرة، ولا يوجد في الكون حب في مرتبة الأب، حب مطلق لا تتخلله أسباب أو أهداف أو مصالح، أن تحب لأنك تحب وحسب، حب لا غاية له حب مطلق في زمن كثرت فيه المصالح، حب لا مقابل له، حب آمن لا مشروط كما كتبت على قوله: «فلا تقيدوا الحب بحبال»، وحده الأب يحبك حتى عندما تخذله، يحبك في كل تقلباتك، متمسك بك، فالجميع يقدس الحب ولكن لا أحد يضحي من أجله مثل الأب كما جاء على لسان “مورافيا” حين قال: «تستطيع المرأة أن تعرف في حياتها رجالا كثيرين، لكنها لن تعرف إلا أبا واحدا».

الإنسان عدو لدود لنفسه، فعدو الإنسان الحقيقي هو عقله قلبه ونفسه كما كتبت على قوله: «ذلك العبء هو أنا ولا أحد غيري» الإنسان سجين نفسه، والقيود الحقيقية ليست من حديد، بل هي نفسية تجرك نحو القاع إلى أسفل السافلين من الانحطاط النفسي، فتعيش في سجن أبدي صنعته بنفسك.

القراءة ملهمة، حياة في حد ذاتها بكل أبعادها تجعلك تتمتع بكل طقوسها في عبثيتها تارة وجنونها تارة أخرى ولنا فيها حيوات، فعل القراءة أو الكتابة من أكثر الفنون تعبيرا عن إنسانية الإنسان وهو يستوجب الصمت التام والهدوء الكامل.

الكتابة هي أن تعرض كل غسيلك للآخرين دون تجميل الواقع أو تزيينه كما كتبت على لسان هنري ميللر: «إني أعري بلا خجل كل قطعة من حياتي» أن تكون شجاعا وحسب، أن تقول كل ما تشعر به وتفعل كل ما تفكر فيه، لأن الغد غير مضمون، أن تكون حرا طليقا وحسب فأنت المسؤول ولا دخل لأحد لمحاسبتك على كتاباتك وغير مدين لأحد. الكتابة نابعة عن القراءة لكنها تتجاوز القراءة إلى تجارب يومية وحوارات ومجالس، فالكاتب هو لص مراقب معزول عن العامة، متفرج ناقد وبعد الكتابة يصبح متفرجا عليه، الكاتب لديه زخم تجارب يستنشقها من الواقع فتعصره ليحكي عنها كما كتبت على قوله: «أنا اقرأ للجميع ولا أحد يقرأ لي! أحرق الكلمات والانفعالات في حقول الكتب»، «فالكتابة متناغمة مع أوجاع الوجود لا يخوض في أعماقها سوى جسد صلبه تاريخ الألم، وقلب مثقل بدم الحياة، وعقل متخم بغصة واقع مر، فالكتابة صرخة قاتلة، الكتابة هي الارتحال إلى سراديب المغامرة، إلى مكامن الضجة واكتشافها رويدا رويدا، الكتابة حقنة انتقام ضد السموم، ووسيلة لتصفية حسابات لدى بعضهم علما أن في الكتابة أنت مدير نفسك، قائد سفينتك وسيد نفسك، تحرر ذاتك متى تشاء وتكتب متى تريد ولا يمكن للكاتب أن يحكي دون أن يكون ثمة ما يهزه بقوة من العمق.

المرأة إنسان وليست أنثى في مجتمع يبخس قيمتها ويقزمها كما كتبت على قوله، «في مجتمع نحث من جسد المرأة تمثالا قابلا للتدوير والتعدد والتحطيم فأحدهم يحتاج عدة نساء بدل واحدة». وإذا أرادت المرأة أن تكتب عن الرجل فيجب أن تتحرر وتنسلخ من ذاتها وتتقمص صفة الرجل وتعيش حياته، أي أن تكون إنسانا بدل أنثى.

أن تكون أنت كما أنت أو لا تكون لقوله: «التشابه يختلق نزعات نفسية والاختلاف يثري ويغني الحياة، أن تقف من أجل قناعاتك بكل شجاعة وتفرد كما كتبت على قوله أيضا، تعلمت أن الصغير هو من يصغر عن مطالبه، الصغير هو كل من يخضع نفسه لمطالب الآخرين من أجل إرضائهم…فالحرية…لم تخلق للعبيد».

الكاتب لا يحتاج إلى ذراعيه أو ساقيه، بل هو في حاجة ماسة إلى أمان وهدوء تام، بل إلى حماية مطلقة، وحده الأمان قادر على أن يحرره من ترسبات عاهاته والكاتب لا يخسر أبدا، فالكاتب هو مخرج وممثل في آن واحد، وحده قادر على اللعب بمن حوله مثل الكراكيز أو لعبة الشطرنج، أن يحركهم يمينا ويسارا، شمالا وجنوبا على هواه، دون فتح المجال لأحد لتوجيهه، فالورقة وحدها قادرة على امتصاص مشاعره، قادرة على أن تنتشله من عاهات متفاقمة ومتراكمة.

الكتابة وحدها تساعده على التعرف على نفسه وأحشائه، والألم وحده قادر على أن يجعل منك كاتبا ناجحا، وهو ما يوحد بين البشرية لكونه مشتركا، كما قال دوستويفسكي عندما سألوه كيف يصبح المرء كاتبا كبيرا فأجابهم: «أن يتعذب، أن يتعذب، أن يتعذب». فالحياة لا تمجد والتاريخ لا يخلد إلا من استحقوا عن جدارة واستحقاق عظمتهم وخلودهم.

تعلمت أن أبكي في خفاء في مجتمع يعتبر الدموع للإناث فقط كأن الرجل رمز للقوة والسلطة خلق ليكون مصارعا قويا مقاتلا، ولا يحق له أن يفقد سلامه الداخلي كما كتبت على قوله «لأنني رجل فأنا مجبر على القتال من أجلك..لإثبات ما نريد..ولأنك امرأة فإنك تستطيعين أن تبقي ساكنة.

الأحلام وحدها تغني الواقع المر، وحدها الأحلام تصلب وجودنا في الكون كما كتبت على قوله: «نحن نحلم كي نوسع حصتنا من الحياة في بطن هذا العالم الجشع بشراهة الحوت».

بعض الجروح عميقة كالبحر لا تلتئم ولا تنسى، كما كتبت على قوله: «النسيان هو أمنية مستحيلة! فالمرأة لا تنسى طعم الخذلان إطلاقا، يظل ملتصقا بلسان ذاكرتها يظل جزءا من جلدها»، وقالت أيضا: «فالمرأة وحدها تحبل بكمد تبعات ذاك الحب، خذلانه وخيانته وذاكرته.»

يجب أن تكون قويا حرا طليقا، أن تتكلم وتعبر عما تفكر فيه كما قال هنري: «وحين تلتفت للوراء ستجد أن الزمن قد مضى، سار من خلالك…فعبر كما عبر غيرك، فهل سيطيق فكرك مزيدا من الجمود… هل ستظل تمثالا شمعيا؟ وقالت أناييس: «فالغد غير مضمون».

إذا أردت النجاح فعليك أن تتحرر من كل عاهاتك، وتزيل كل الرواسب العالقة من الماضي كما قال هنري، لا تدر رقبتك للوراء فما مضى لا يورث سوى الحسرة…ما ذهب لن يعيد نفسه كغنيمة بل كخيبة.

النفاق المجتمعي المتمثل في قوله «ثمة وجوه تبقى ثابتة منذ ولادتها الى وفاتها قانعة بتوحدها…فيما هناك وجوه متوالدة في كل موسم وجه تعجنه الظروف والمقامات وجوههم دائمة الاتساخ.»

الذاكرة سلاح ذو حدين وعدو للإنسان، لذا وجب التعامل معها بذكاء وحذر تام، كما كتبت على قوله: «الذاكرة من هول التفكير تحفر قبرها بنفسها» وقال أيضا «الذاكرة كالأفعى تجيد رقص عزفها بإتقان فإن لم يتم التعامل بطريقة خاصة ستردنا جثة هامدة».

بهذا نجد أن للقصة أبعادا أخرى عميقة غير التي قد نقرؤها على كل من صفحاتها الأولى، وعنوانها أي رسائل حب مفترضة بل تفوق ذلك لتنتقد الواقع بشراسة، وقد أبانت الكاتبة من خلال السرد على مدى ثقافتها الواسعة، ذاتها المبدعة، تجربتها الكبيرة في الحياة وخاصة معاناتها مع البشر.

وفي الأخير وليس أخيرا، يبقى كتاب رسائل حب مفترضة تحفة أدبية خالدة تداعب الواقع وتلامس الإنسان بامتياز، رغم سلبيته نوعا ما، إلا أنه جزء لا يتجزأ من الواقع المعاش خاصة في البلدان العربية ولا يمكن لأحد إنكار ذلك.