قراءة في كتاب سيكولوجية الجماهير
يعتبر الطبيب والمؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي “غوستاف لوبون” من أهَم الكُتّاب الذين اهتمّوا بالطب النفسي، وأنتج فيه مجموعة من الأبحاث المؤثرة عن سلوك الجماعة، والثقافة الشعبية، ووسائل التأثير في الجموع، ممّا جعل من أبحاثه مرجعًا أساسيًّا في علم النفس الاجتماعي، وعند الباحثين في وسائل الإعلام في النصف الأول من القرن العشرين.
ولد غوستاف لوبون في مقاطعة نوجيه لوروترو بفرنسا يوم 08 ماي 1841، وتوفي في ولاية مارنيه لاكوكيه، يوم 18 ديسمبر 1931 بفرنسا. درس الطب، وعمل في أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا.
فيما يخص الكتاب الذي بين أيدينا “سيكولوجية الجماهير”، الذي يتكون من 224 صفحة، ترجمة وتقديم “هاشم صالح”، والصادر عن دار الساقي. ففي البداية، قد افتتحه المترجم بمقدمة يتحدث فيها عن بوادر ظهور علم النفس الاجتماعي أو الجماعي ومراحله بالشرح والتعريف والأمثلة، وغيرها من الأمور لتوطئة القراءة.. ثم بعدها انتقل إلى التحدث عن الكاتب غوستاف لوبون بترجمة سيرته ومسيرته وأفكاره.. هذا الباحث والكاتب الذي نبذه المجتمع الأكاديمي لسنوات عديدة لاتهامه بالفاشية بسبب استعمال أفكار كتابه هذا فيما بعد من قِبَل عدة شخصيات مثل هتلر وموسوليني.
لقد بدأ غوستاف لوبون كتابه الشهير هذا، بشرح مُسْهب عن الجماهير وكيف نُصنف جماعات الناس بكلمة جماهير حيث أكّد أنه ليس كل جمع أو تكتل من البشر يعني جمهوراََ. يعرِّف أن الجمهور النفسي حسب النظرية النفسية، هو تكتل مجموعة من الناس تمتلك خصائص جديدة مختلفة جدََا عن خصائص كل فرد يشكلها، فعندئذ تختفي الشخصية الفردية الواعية للفرد، وتصبح لهذا الجمهور عواطف وأفكار في نفس الاتجاه الواحد، ومن ثمّ تصبح خاضعة لنفس قانون الوحدة العقلية.. بينما لا يمكن تعريف الجمهور على أنه مجموعة من الأفراد مجتمعين بالصدفة في الشارع أو مكان ما، دون هدف أو رأي أو أفكار موحَّدة.. مؤكداََ أنه يمكن لهذا الجمهور النفسي أن يتشكَّل من مجموعة قليلة من الأفراد في وقت وجيز من التاريخ بالصدفة دون تهييئ مسبق، مهما تكن نوعية هذه الأفراد وعرقهم، وأيَّا يكن نمط عيشهم وعرقهم وكذا اهتماماتهم وميولاتهم أو مستوى ذكائهم… فعند تحوّلهم إلى جمهور نفسي، سيزوّدهم هذا بنوع من الروح الجماعية الموحدة، ثم يصبحون بفكرة واحدة وموحَّدة، ويميلون نحو التساوي من الناحية العقلية والذهنية.. لأن الذكاء الفردي لا يلعب أي دور عندما يصبح الإنسان منخرطا في الجماعة لأن دور ذكائه يتعطل آنذاك ويخضع لمنطق الجماعة، وهذا راجع إلى الحالة النفسية للمنخرطين الذين ينتمون إلى جمهور واحد والتي تختلف أساساََ عن نفسيتهم الفردية المعزولة، بل تصبح العواطف اللاواعية هي المتحكمة فيهم آنذاك..
وبهذا يمكن للجمهور أن يسير نحو الأفضل أو الأسوأ حسب الطريقة التي يتمّ تحريضه أو تحريكه بها من طرف قائده وخطيبه الذي أخذ بزمام الأمور والقيادة فهو الذي أصبح مسؤول عليها، أما الجمهور فقد استسلم لمنطق القطيع وأصبح يتصرّف باللاوعي.. ويتَّبع قائده على أفكاره وآرائه وينصاع لها كيف ما كانت طبيعتها، ويصبحون مجيَّشين بقوة، حيث يتحرَّر الأبله والجاهل والحسود من الإحساس.
لقد تحدّث لوبون كثيرََا عمّا سمّاه بالعاطفة الدّينية، باعتبارها المحرك الأساسي والتي أشعلت أغلب الانتفاضات الكبرى كما أدّت إلى تغييرات كبيرة في العالم، وهذه العقائد الدّينية ليست فقط دينية تخصّ دينََا معيّنََا، بل قد تكون بطلا أو فكرة سياسية تسيطر على الجماهير وتوحّدهم على هدف معين.. وهنا يكمن المشكل الأساسي، فهذه العاطفة تصبح قوّة مخيفة تجعل الجماهير تخضع لها خضوعََا أعمى، فتمضي بكل عزم لحماية تلك العاطفة والأفكار بكل ما أوتيت من قوة وجهد كبيرين، والمعضلة الكبرى هنا، أنها تَعتبر كلّ من يرفضها ويحاربها، وكذلك الذين لا يشاطرون الجماهير إعجابها بكلام الزعيم، أعداء يجب التصدي لهم والقضاء عليهم بأي طريقة..
بالإضافة إلى ذلك، يرى غوستاف لوبون أن الجماهير لا يمكن تصوّر نشاطها إجراميََا وعنيفََا كما يتصوَّرها الفلاسفة والتيّارات السابقة على أن طبيعة الجماهير مجرمة وعنيفة في كل تصرفاتها وقد يصل بها الأمر إلى حدّ القتل، والسرقة والنهب وتدمير الممتلكات العامة ومختلف أنواع الجرائم… بل أكَّد في المقابل أنها يمكنها أن تكون ذات أفعال أخلاقية وحميدة كالتضحية، والنزاهة والتفاني والإخلاص.. من شأنها أن تنفع المجتمع وتحرره من قوقعة الفقر والجهل عن طريق الاحتجاجات السلمية.
وطالما أن الجمهور يحتاج إلى قائد يرعاه ويسيّره، فإن القائد ليحرك ويؤثر على هذا الأخير فهو يحتاج لوسائل ومحركات أساسية، وهي حسب لوبون : التكرار، والتأكيد، والعدوى.. حيث إن التكرار والتأكيد عاملان أساسيان في تكوين الآراء وانتشارها حيث إن التأكيد لا يحتاج إلى دليل عقلي يدعمه، وإنما يقتضي أن يكون وجيزََا حماسيََا ذا وقع في نفوس الجماهير.. ومن ثمّ يأتي دور العدوى النفسية، وهي أمر روحي ينشأ عنه التسليم ببعض الآراء والمعتقدات تسليما غير إرادي، ومصدرها دائرة اللاشعور والوعي الذي يفتقده الفرد عندما يصير فردا من الجمهور النفسي، كما بيّن الكاتب ذلك في الفصل الأول من الكتاب.
وأضاف لوبون قائلا إنه لا يمكن تحقيق الانتصارات لهذه الجماهير إلا عندما يستطيع قائدها (أو محركها) فهم مخيلاتهم، وميولاتهم وتصوير الواقع لهم بالكلمات والعبارات (أو الشعارات الرنانة) والتي تلهب روح الخيال لدى الجمهور، وتجعله يتخيل صورة ما وكأنها حقيقية، وإغرائهم بشكل ساحر حسب رغباتهم وحاجياتهم ومصالحهم.. هكذا سيستطيع الاستيلاء على أفكارهم والتأثير عليهم بشكل ساحر، وجَعْلِها منصاعة وتابعة له ولأفكاره ومعتقداته كما يشاء.. ولا يمكن لهذا القائد أن يؤثر بشكل مهم في هاته الجماهير إلا من خلال هيبته الشخصية، والتي تتشكل لديه من خلال النجاح والذي يُعتبر أحد أهم العوامل التي تشكل وتعطي الهيبة الشخصية لأي إنسان على وجه الأرض، لأن الإنسان الناجح تكون له فكرة تفرض نفسها ولا يستطيع أي فرد أو جماعة من الجمهور أن يعارضها بسبب نجاحه بالذات.. وقد كانت لعدة شخصيات وزعماء هذه الهيبة الشخصية الساحرة، إضافة للكلمات المؤثرة التي اختاروها، والتي مكَّنتهم من السيطرة على جماهيرهم.
حيث أكد لوبون أن هذه الهيبة يمكن أن تكون مصطنعة كالشّهرة والمال والجاه وهي الأكثر انتشارََا بين مختلف القادة في أنحاء العالم، لكن تبقى الهيبة الطّبيعية هي الأكثر تأثيرََا في أغلب الأحيان. ومن بين هاته الشخصيات المؤثرة، استدل لوبون بالجنرال الفرنسي نابليون الّذي كان يزرع في نفس كل من يقابله انطباعا غريبا بأنّ عليه أن يطيعه ويتّبعه.. ونحن المسلمون نعرف أنّ رسولنا الكريم، محمّد عليه أفضل الصّلاة والسّلام كان يملك تلك الهيبة، إذ كان حبّه ينسلّ إلى أنفس كل من صاحبوه وقابلوه وعايشوه وهو ما يلين قلوبهم أكثر للاستماع لرسالته التي أوحاها الله إليه.. وقد استطاع، ولأول مرة في التاريخ، أن يوحّد بين الشعوب، وأن يملأ قلوبهم بالإيمان وأن يهديهم جميعًا بالدعوة إلى الإله الواحد الأحد. ولذلك استطاعت جيوش المسلمين الصغيرة المؤمنة بالله أن تقوم بأعظم غزوات عرفتها البشرية.
ثم بعد ذلك انتقل غوستاف لوبون إلى التحدث عن المناهج التعليمية في فرنسا آنذاك، والتي انتقدها بشدة، والتي كانت في ذلك الحين تشبه المناهج العربية لعصرنا الحالي للأسف.. فيقول: الفوضويون بأوربا يُعدّون من صفوف المتفوقين بالمدارس، وهذا بسبب نشر نمط معين من طرق التعليم، وقد قال أحد القضاة أنه يوجد ثلاثون ألف مجرم متعلم مقابل ألف أمي. ثم أضاف، إنّ الدولة التي تُخرّج بواسطة الكتب المدرسية البائسة كما هائلا من الطلاب، لا تستطيع أن توظّف منهم إلاّ عددا قليلا، وجعل الآخرين بدون عمل ولا وظيفة.. فهاته الفئة الأخيرة مستعدّة لخوض كل الثورات والمظاهرات أيَّا تكن أهدافها أو قاداتها، لأن اكتساب المعارف التي لا يمكن استخدامها أو استثمارها في الواقع هي الوسيلة المؤكدة لتحويل الإنسان إلى كائن متمرّد وعاص غير آبه بالنتائج..
إن قناعات الجماهير تتّسم بخاصيات الخضوع الأعمى والتعصّب الديني، وهو ما يجعلها تخضع لقائدها وتطيعه وقد تعتبره كإله في بعض الحالات.. إلا أن هاته الجماهير لها أيضا آراء ومعتقدات التي تتشكل لديها من خلال عقائدها كالعرق مثلا والتقاليد الموروثة والزمن، ومؤسسات التربية والتعليم.
حيث يرى غوستاف لوبون أن الجماهير مستعدّة دائماً للتمرد على السلطة الضعيفة المترددة، فإنها لا تحني رأسها بخنوع إلا للسلطة القوية، وإذا كانت هيبة السلطة متذبذبة بين الضعف والقوة فإن الجماهير تنتقل من الفوضى إلى العبودية، ومن العبودية إلى الفوضى. وهذا ما يحصل في أغلب الأحيان، والتاريخ يؤكد لنا ذلك.
وفي الأخير، وحسب رأيي المتواضع فهذا الكتاب ما هو إلا تجسيد للواقع المُعاش في مجتمعاتنا عامة والعربية خاصة، فهو الواقع الذي نعيشه اليوم والقانون الذي يطبق على جماهيرنا بأتمّ حذافيره وبأدَقّ تفاصيله.. وعلى الرغم من أن هذا الكتاب كان قد كُتِب في أواخر القرن التاسع عشر بأمثلة ووقائع وأحداث حصلت من قبل وخلال ذلك العهد، إلا أنه مع ذلك لا زال يعتبر تصويرا حقيقيا وحيا لواقعنا المرير ولطريقة حكم والتحكم في الجماهير العربية المغلوبة على أمرها والمُسيّرة حسب أهواء قاداتها.