العقل البشري في مواجهة التكنولوجيا الحديثة

لطالما بدا لي هذا العالم الشاسع كرقعة لعبة الشطرنج، فقد يُخيّلُ إليك عزيزي القارئ أنّك حرّ في قراراتك وأبسط أمور حياتك، ويمكنك أن تفعل كل ما تريده بكل أريحية، تنتقل وتسافر كما تشاء، وأن تعبّر عن أفكارك ورأيك كما يحلو لك دون الانصياع لتلك القيود التي تكبّل طاقات الإنسان وحرياته سواءََ كانت قيودََا مادية أو معنوية.. ولكن للأسف منذ زمن بعيد وفي واقعنا هذا، هناك دائماً تلك الأيادي الخفيّة التي تقوم بتحريك كلّ شيءٍ بسلاسة في صمت وهدوء محاوِلة بيعك وَهْم الحرية أو حرية الاختيار والتعبير، تلك الأوهام التي تُسيطر على عقل الإنسان دون أن يشعر بذلك وتقف حجر عثرة في سبيل حصولِه على حريته وتحقيق أحلامه، كيفما كان نمط عيشه أو بيئته الاجتماعية، فهذه اللعبة كانت منذ الأزل ولا زالت قائمة إلى يومنا هذا مع تغيير كبير في أساليب الخبث وفنون القمع.

فأنا على أيٍّ لم أرغب يومََا في التعمق في تفاصيل الخطوط العريضة والخفية لهذه اللعبة، فقد اخترت أن أستمتع بالتفاصيل الصغيرة المضيئة في حياتي الشخصية وفي محيطي دون الغوص في الحيثيات العميقة التي لا تبشر بالخير في غالب الأحيان، والتي من الممكن أن تُؤثّر على أفكاري وتفقدني حلاوة العيش الكريم. حياة إنسان بسيط لا يقدر على مجابهة الكبار في ميادينهم التي ألِفوها وحكموها منذ زمن ليس بالقريب ربما بشواهدهم الأكاديمية وكفاءاتهم، لكن أغلبيتهم ورِثوها أبََا عن جدٍّ، أو ولجوها بالمحسوبية والزبونية المنتشرة في غالبية البلدان النامية.. رغم ملاحظاتي المتتالية للفساد السائد في تلك الرقعة من البلاد، فأنا لم أعد قادرا على التفكير في هاته الأمور وكيف تمرّ وإلى أين تسير.. بل صرت أرى من بعيد وأفوض أمري لله شأني شأن باقي المواطنين الأبرياء الأشقياء في ربوع هذا البلد الجريح الذي قمعت أفكاره وقيّدت حرياته واستنزفت كل قواه الفكرية وسلبت منه ثرواته البحرية والبرية.

لقد أصبحنا ضعفاء كورقة الشجر الجافة الهشة بين أيديهم، وكأننا ترس في منظومتهم السامة لقضاء حاجياتهم وأغراضهم ومن ثم تضيع حياتنا في الأوهام. فعلاََ لسنا سوى بيادق على رقعة هذه اللعبة الخبيثة.. لسنا أحرار، فالحرية في هذا البلد هي تلك الخمس دقائق الأولى التي نولد فيها نبكي، عراة بدون اسم ولا هوية ولا خطيئة، بلا توجهات ولا حقد بشري كما قال مكسيم غوركي.

أما بالنسبة لي شخصياََ، فلقد وجدت متعتي أيضََا في تلك التفاصيل الصغيرة والبسيطة التي تهديهَا لنَا الطبيعة بين الحين والآخر، فكلما شعرت بالتعب والتشتت اتّجهت إليها كطفل صغير خائف لِتُقدّمَ لي ذاك الحضن الدافئ البريء وتطبطب على خيباتي التي وقعت لي وتمتص بقايا الحزن القابع في وجداني. فكلما تقدمت في العمر ونضجت فكريََا، تيقّنت أنّ كل ما يدور حولنا في هذا العصر مبني على التفاهة ولاشيء غيرها.. فالعبرة هنا تكمن في كيفية الحفاظ على حدائقنا البسيطة مزهرة بورودها البهية دون أن تصل إليها تلك الأيادي الخفيّة الملوثة بكل أنواع الظلم والاستبداد القديمة منذ القدم في كل بقعة من بقاع هذا العالم. فكل من وصلت إليه هاته الأخيرة دنّسته وعثت فيه فسادا، وأفقدته بساطته وحلاوته وقلبت أعلاه على سافله.

وعلاقة بما سبق، ومع تطور العلم والتكنولوجيا في الآونة الأخيرة خلال القرن العشرين، والذي كان يعتبر قضية مفروغ منها، وأنّ مع التقدم التقني الحالي وكثرة الاختراعات من هاتف وحاسوب وبرامج ذكية آخرها الذكاء الاصطناعي، الذكاء في الآلات والبرامج الذي يحاكي القدرات الذهنية للبشر وقد يتجاوزها في أغلب الحالات، وذلك من خلال استعمال الآلات والأجهزة الذكية في الصناعة والتعلم والاستنتاج ثم إظهار ردة الفعل بأسلوب ذكي، فهذا الذكاء يعتبر تهديدََا مباشرََا للعقل البشري من خلال قتل عنصر الإبداع لدى الجنس البشري في جُلّ ميادين الحياة، مع ما وصل إليه من مراحل متطورة وجدّ متقدمة، يعجز عقل الإنسان عن مجاراتها واستيعابها، فقد تمّ التحكم في جوانب حياتنا كلها، واستولت على أغلب الوظائف الأساسية التي كانت من قَبل وظيفة البشر لوحده، لقد أصبحنا محاطين من كل الاتجاهات ومقيدين بأغلال عبودية جديدة تسمى العبودية التقنية، أصبحنا مسيرين لا مخيرين.

كما جاء على لسان بعض الخبراء: “لا نعرف كيف سيستجيب المجتمع نفسيا وعاطفيا لعالم يكون فيه العمل غير متوفر وتأثير ذلك على الصحة الجسدية لأفراد المجتمع”. فما على الإنسان إلاّ أن يكون على دراية بكل المستجدّات التي تطرأ من حوله ويتوقع أي شيء سواءََ في المستقبل القريب أو البعيد.. فنحن البؤساء الهامشيون أبناء الطبقة البسيطة والفقيرة الكادحة يجب أن نكون على وعي تامّ بأنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم وتغيير مبادئه، ولا تغييره إلى الأفضل أو توقيف عجلته التي تسير في الاتجاه البائس الذي لن يزيدنا إلا البؤس والتعاسة والتدهور من جهة ويزيد للطبقة الحاكمة ثراء فاحش وغنى في الجهة الأخرى. لم يتبقَّ لنا في هذه الرقعة الواسعة المظلمة سوى المقاومة في صمت وأن لا نأخذه على محمل الجدّ.

وفي الأخير يجب على الإنسان وبالأخص الفئة المثقفة خصوصََا فئة الشباب أن تقرأ وتتأمل في المناخ الحالي، لكي تستوعب خطورة ما ستؤول إليه الأوضاع مستقبلا في مجتمعات العالم، لكي يتخفف قليلا من وطاة خطابات الميديا وتهويلات الصحف والأخبار المنتشرة على عموم وسائل التواصل الاجتماعي.

وأختم مقالي هذا بمقولة لألبرت إنشتاين حول التكنولوجيا يقول فيها : “لقد أصبح واضحاً بصورة جلية أن تكنولوجياتنا قد تجاوزت إنسانيتنا”.

1xbet casino siteleri bahis siteleri