“إن الصداقة نادرة في العالم، وخصوصاً بين الأنداد والمتساوين” (فرنسيس بيكون)
من طبيعةِ الإنسان وسَجِيَّته التي فُطِر عليها، أن تنزِع به نفسه تِلْقَاءَ ما لا يعلم، وأن يستشرف بعقله ونظَرِهِ نحوَ كل ما يتجلَّى ظاهرهُ ويَخْفى وراءَه شيءٌ؛ ومن ثمَّ كانتْ مُقدِّمة الإعجاب، وبادرةُ الاختلاب بشخصٍ ما ناتجةً عن هذا الفضول الجِبلِّيِّ، أو حُبِّ استكشاف “الخصوصيات” والتعمُّق في أغوار الأمور إلى أبعدِ مدىً ممكن.
لعل من الحكمة في هذا السياق أن يكون التعبيرُ بـلفظ “الخصوصية” بدل “الغموض“؛ لأن الأول يحمل في مدلوله اللغوي معنى كلِّ ما ينئى عن الظهور، سواءٌ كان خيراً أم شراً. على حين يُكِنُّ الثاني وراءه في الغالب شراً مُستطيراً.
حين يلاقيكَ القدر بأحدٍ من بني بيئتك وجيلِك وخلفيتك الفكرية، وهو من ذوي التميُّز والموهبة في ميدانه، فإنَّك بادىء الأمر تعتبره صديقاً نادراً، وتربط بينكما وشيجة وُدٍّ وآصرة مودَّة، وقد تنبهر به، وتحيطُه بهالةٍ من التعظيم، ولا تكادُ تسأم سحْبَ ذيول الحوار والنقاش معه، في محاولة غريزيةٍ لا شعورية لا ستكشاف كلِّ أوراقه الخفيَّةِ وزواياه العميقة، والوقوف على ما تصل إليه يدك من ورود حديقته الخلفية.
“العبقرية هي أن تتقن إخفاء مصادرك” هذه مقولة تنسب لآينشتاين. وأياً كان قائلهَا فإنها ذاتُ بعد عميق يصُبُّ في هذا المنحى.
ما يحدُثُ غِبَّ هذه المرحلة بشكل تِلْقائي بُعَيْد الاطلاع كل الأوراق والأرْوِقَة، أو أغلبها، أنَّ مدى الإعجاب والانبهار ينحسر رُويداً رُويْداً وتخْبو جِذوته، وذلك الشَّغف والالتفات يَخْفِتُ مليّاً ملِيّاً… وقد يؤول في آخر المطاف إلى نوع من الضجر والملل!
وهذا هاجسٌ عظيمٌ وآفة جُلَّى يُبتلى بها المقبلون على الزواج، وطالما كانت العادةُ مظِنَّة للسآمة.
على أنَّ من يَمْتَح من نبعه المعرفي، وينسج من خيوط أفكاره وزاده العلمي دون تكرار، ينبغي أن يكون كلامه بالضرورة قليلاً وموزوناً، وذا بالٍ.
ولا خيارَ ناجعَ لمن ابتُلي بأن تقتات عقول الناس على بنات لُبِّه إلا أن يواصل المسيرَ، وأن لا يقِفَ عن السير نحو بُعْدٍ أعمق وعوالم أبْعَد؛ فكلما خطا الناسُ مرحلةً وراءهُ، يكون هو قد اقتحم مراحل كثيرة.
وكم أفجعنا التاريخُ ورأينا ـ رأي العَيْنِ ـ مُبدعين ونوابغ قال أحدُهم شيئاً جميلاً مرَّة، فظلَّ يعيده ويجترُّه ويسلخُ فيه سنين عمره عقوداً مديدة، حتى صار يبعث على التثاؤب!
وكان خليقاً بالكِياسة والفطنة أن يبحث عن شيء جديدٍ يعود عليه وعلى الناس بفوائد أخرى، ولكن حُبَّ التَّصدُّر مَهْلَكَةٌ.
ولا شكّ في أن حيِّز الخصوصية رافدٌ مهمٌّ من روافد التقدير والاحترام، وباعث حثيثٌ على التبجيل والتعظيم. وقد كان انجذاب الناس إلى كلِّ روَّاد المعرفة والعلم على اختلاف ألسنتهم وألوانهم نابعاً من هذا النهم الفِطريِّ، نظراً إلى أنهم في الغالب لا يستطيعون سبْرَ أغوار هؤلاء، ولا استقصاء كلِّ معارفهم مما أورثه كثرة الاطلاع على حقائق الأشياء وغرائب الأمور عبر سنين مديدة من البحث والدراسة.
حتى إن بعضهم كان يتعمَّد نوعاً من التَّعميةِ والإغراب في الكتابة استدراراً لهذه الحاسة الفضولية الباعثة على الإعجاب. ولعل لهم في ذلك مآربَ أخرى؛ وهذا ما قيل عن كتابات كثيرين مثل: “هيجل” و”كَنْت“.
ولم يسلم شاعر العربية “المتنبي” من هذه الحيلة، حتى لَمَزَهُ النُّقاد في ذلك بأقلامٍ وألسِنةٍ حِدادٍ!
هذا ملحظٌ خفي لعله سببٌ رئيسٌ في أن المتساوين في المنزلة العلميَّة، والاختصاص الواحد، وفي ذات الحقبة الزمنيّة، يكون إعجابهم ببعضهم خافتاً وباهتاً إلى حد ما، وقد يكون تنافراً وتدابُراً! “والمعاصرةُ حِجَابٌ”.
يقول “وِلْ ديورانت“: إن التفاهم بين العباقرة أمرٌ صعبٌ، كتفاهم النار والديناميت!
من هذا الْمَنحَى كان أشدُّ الناس اختلاطاً بهؤلاء هم أقلَّهم اختلاباً وتقديساً لهم؛ فالأخ في الغالب لا ينبهر بأخيه، ولا يُعجَب به كالأجانب، لأنه ـ ببساطةٍ ـ يعرِف عنه كلَّ شيء، وكثيرٌ من الإخوة في النسبِ لا يجمعهم إلا “الدَّفتر العائلي”!
قد يُقال : ماذا عن ظاهرة بعض التلاميذ المبهورين بأساتيذهم علماً أنهُم أشدُّ الناس خبرةً واختلاطاً بهم؟
إذا أبعدنا في هذا مسألة العصبية العمياء، والعُنجُهيَّة الجوفاء، فإن التلميذ في الغالب إنما يُقيمُ هامَةَ أستاذه كي يتَوكَّأ على كتفيه ويظهر من فوقها للصدارةِ على رؤوس الأشْهَاد.
فهو في الحقيقة إنما يُكمل بذلك جُزْأه الناقص؛ وهذا على غرار افتخارِ الأب بابنه والابن بأبيه والمرء بعشيرته وبني جِلدته.
أم التلميذ “الكامل” فغالباً ما يمحو أثر أستاذه، ويستقل بمساره.
وفي الأخير… هل تقبل منظومة الأخلاق الحميدة أن نَحُوطَ أنفسنا بسياج من الخصوصية، أو نطبعها ـ ربما ـ بمساحةٍ من الغموض كي نظل دائماً محل إعجاب وتقدير، وتظلَّ صورتنا لامعةً تسُرُّ الناظرين؟
حقاً من الصعوبة الإجابة عن هذا السؤال بجوابٍ حاسم، إلا أن غاية إمعان النظر تُفضي إلى أن لكلٍّ منا الحقَّ في أن يُشكِّل فُسيفساء شخصيته كما يراها أصلح وأجمل، ويظهر َفي محيطه ومجتمعه وإزاء أصدقائه ومُحبِّيه بأحسن صورة ممكنة ونقيَّة، ما لم يكن ذلك على حساب مبادئه وقيَمِه.
و”أهلُ مكة أدرى بشعابها”