أسرار النفس، بين العزلة والوحدة

عزيزتي ..
تعلمين جيدا حبي لأن أكون وحيدا .. حبي لأن أنعزل بين فينة وأخرى .. العزلة ملاذي، دوائي .. وارتياحي.
عزيزتي ..
إننا نقضي من وجودنا معظمه رفقة ذواتنا الخاصة، التي من المفروض أن تكون مرتعا رائقا وطيبا للعيش .. الإنعزال يمنحني دائما القدرة على مواجهة وباء السخافة، وطاعون التشاؤم، ومرض السلبية، يحصنني ضد الكسل، ضد الاجتياح المدمر للأفكار السوداوية القادرة على التحول لقناعة تامة، واعتقاد راسخ ذلك إذا ما سمحت لفكرة سلبية واحدة أن تعشش في دواخلي وتسكنني لأيام وليال. هذا الإعتقاد السوداوي يمكنه أن يلوث فكري، و يغتال طبعي و يُهلك مصيري .. الإنعزال مقاومة طبيعية لكل ذلك. الإنعزال عَبارتي لميناء النجاة ومحرري من الفوضى والمرج واللغط، وهو مرشدي للطريق الذي ستسوقني له الوحدة فيما بعد، والذي ليس إلا المقدرة الكاملة على تنقيح الأفكار السامة، واستبيان المشكلات المتسببة في حزني الدفين. الوحدة وسيلتي للحلول الكبيرة.
قد يرافقنا البعض خلال فترات مختلفة من حياتنا، قد يستمع الآخرون لما نبوح به، قد يعايشون أزماتنا، معضلاتنا، خوفنا، مشاكلنا، لكن لا أحد على الإطلاق يمكنه أن يقدم لنا الحلول الأنسب، سيفتون، سيتبصرون، سيخمنون، سيروون لنا نظريات مبهرة آتت أكلها مع البعض، لكنها فشلت مع البعض الآخر.. في حين أن الأجوبة الملائمة لنا، الخاصة بنا .. لا يمكن أن يمنحنا إياها سوى الإنعزال بعيدا عن كل مؤثر كيفما كانت ماهيته .. لا أحد يمكنه التنؤ بحقيقة احتياجاتنا ولا كبير آمالنا ولا تصورنا للحياة التي نرغب في عيشها، لا أحد يتوقع كيف نريد أن نكون ولا الطريق التي نأمل سلوكها .. فإن كنا نحن، أنفسنا، نجهل هذه الحقيقة المخبئة بين جنبينا، نجهل عمقنا، نجهل التساؤلات الكبيرة التي يجدر بنا طرحها .. والتي لا يمكن أن نكتشفها سوى في حضن الإنعزال التام، فكيف يمكن لغيرنا معرفة كل ذلك.

alone

العزلة لا تمكننا فقط من اكتشاف ذواتنا وحقائقنا الدفينة، ولا فقط الاحتماء بدرع الإيجابية العظيم واكتساب المناعة الصلبة ضد كل فكرة سامة دخيلة، ولا حتى فقط العثور على الأجوبة الخفية، الانعزال والوحدة يجعلون الشخص أكثر حساسية ، أشد ابداعا، وأعظم انتاجا. عندما نمنح لقلوبنا ووعينا فرصة البوح وننصت باهتمام، ينمو جانبنا الحسي ويتضخم.
وعندما نصالح شغفنا وأحلامنا، نصير مبدعين، وعندما نستثمر أوقاتنا بعيدا عن الرفقة السيئة، جاعلين نصب أعيننا أولاوياتنا المهمة نغدوا بكل تأكيد رواد الإنتاج.
عزيزتي …
لطالما تأملت المعنى الحقيقي لشخصية كل منا على حد سواء .. لاوعينا الباحث دون كلل ولا توقف عن التحديات الصعبة التي يروي بها ضمأ الملل الذي يفترسنا من الداخل. المشكلات الصغيرة، البشر العاديين، حياة اللامعنى، الأهداف البسيطة التي لا تمنحنا نشوة الإنجاز، الأمور اليسيرة التي لا تتطلب جهدا كبيرا اللهم بعض الوقت الضائع … حياة التكرار واللاهدف التي تدمرنا. الكلام المتردد على مسامعنا والذي تلوكه الألسن جميعها كل يوم وكل ساعة يشلنا. التقاليد الجامدة والعادات الرتيبة تقزمنا شيئا فشيئا وتقودنا لحتفنا الجاهز.
عزيزتي ..
إن ما يمنحنا الحياة .. هو سلوك طريق المجهول واقتفاء أثر السر المندثر، واكتشاف وجهنا الآخر المدفون، المتعطش، المترقب لكل محنة، مطب، خلاف، معضلة، ليطعم جوعته بأفكار وأحاسيس جديدة، وليفر من الهدنة التي عقدناها بين شخصنا المنهك بعقده والحياة العادية المفروضة عليه .. قد أكون ملغِزا أو مبهما بعض الشيء … أو قد يكون فقط هذا من نسج خيالي

lamp_to_my_feet_light_to_my_path-1024x696عزيزتي …
إنني أحيى في تناغم لطيف مع تناقضاتي الدائمة
الروحانية مكننتي من تقبل شخصي المبهم، دونما تغييره .. طهرته. لا أعلم فعلا إن كنت أستطيع استعارة هذه العبارة، لكنني أشعر بالطهر داخل غموضي والتباسي الباحث عن الطمأنينة في قلب التوتر، والنظام بين دفتي الفوضى، والإستقرار على أعتاب الترحال .. كل هذا يجعلني غير راغب في تغيير من أكون، لقد حاولت ذلك من قبل .. أما الآن فأنا لا أرغب بشيء سوى تعميق معرفتي بهذا الشخص الغامض الذي هو أنا، توطيد علاقتي به والإنصهار فيه، حتى أصير مؤهلا لكبحه، لإرشاده، لجعله قادرا على تقبل جزء من هذه الحياة التي يحاول تجاهلها والهروب منها، ذلك الجزء الطبيعي الذي يعتريه شيء من الملل، من الروتين، من معايشة أناس لا يستلطفهم. لكن الأهم أن لا يعتاد هذا الجزء وأن لا ينغمس فيه متناسيا غموضه وألقه .. هذا ما علينا الإيمان به.
الوحدة والعزلة وحدهما من يمنحاني هذه المعرفة بذاتي لكي أتحمل ما تفرضه علينا الحياة

1xbet casino siteleri bahis siteleri