الراحة توجد خارج “منطقة الراحة”

عندما أحس بالخوف من تحد وضعته لنفسي؛ ذلك الخوف الممزوج بالقلق والكسل الذي يعتريني عندما أقرر خوض تجربة ستخرجني من دائرة الأمن والأمان؛ أعرف بأنها أحاسيس سلبية وحواجز نفسية فقط، دورها أن تحول بيني وبين خوض التجربة. النفس بطبعها تخاف من المجهول، فتدفع عنها كل ما لا تعرفه بإرسال هذا النوع من الإشارات. ما تريده النفس هو الراحة، أن تعيش بعيدة عن المشاكل والمتاعب والألم. لكن فِي مخالفتها تكمن الراحة الحقيقية. ففي كل مرة أخالف هذه الأحاسيس السلبية أَجِد التجربة مفيدة وملهمة؛ أحس بعدها بأنني تغيرت وتعلمت الشيء الكثير.

أظنها قاعدة كونية؛ نتألم لكي نتعلم. نتعب لكي نكبر. يعيش الكثيرون في دائر الأمان لأنهم يهربون من الألم؛ فلا يتغيرون. يعيدون نفس الأشياء بنفس الطريقة يوما بعد يوم إلى أن تتبلد عقولهم ويفقدون القدرة على تحليل الأشياء؛ القدرة على التعلم. الأمن الحقيقي في الحياة يكمن في العيش بطريق نجتنب فيها الأمن الدائم، بهذه الطريقة فقط نستطيع أن نتطور ونكبر ونتعلم، بهذه الطريقة سنرتاح فعليا. في هذا السياق أردت أن أخوض هذه التجربة، ربما ستكون محفوفة بالمخاطر؛ ربما لن تستصيغها نفسي في البداية، ولن تتقبلها حتى تجد نفسها في خضمها، لكن لن يبقى لها خيار حينذاك سوى التأقلم مع هذا الكم الهائل من الإشارات الحسية الجديدة التي ستفرض عليها فجأة. حينها لن يبقى لها خيار سوى التعايش مع هذا العالم الجديد …والإستمتاع به أخيراً.

هكذا هي النفس. تعارض ثم تذعن. تربى على كل شيء وتألف كل شيء وإن كانت تظهر العصيان في البداية. العالم الذي فرضته على نفسي خلال ثلاث ليالي وأربعة أيام هو غابة الأمازون. مكان فسيح مليئ بالزواحف والحشرات ومختلف أنواع الحيوانات. في هذه الغابة الأسطورية سأقضي أكثر من ثمانين ساعة مع سكان المنطقة آكل مما يأكلون وأشرب مما يشربون وأنام كيفما ينامون. في انقطاع تام عن العالم الخارجي. بدون أي وسيلة من وسائل الإتصال وبطريقة عيش مختلفة عما تعودت عليه لعقود. بعد وصولنا إلى “ماناوص” التي تعد أكبر مدينة في منطقة الأمازون، أخذنا الحافلة لثلاث ساعات شمالا وشرقا في اتجاه قرية “لينداو”، ثم حملنا قارب صغير لمدة ساعة إلى الضفة الأخرى من نهر ال”أوروبو”، أحد مئات الأنهار التي تتفرع عن نهر الأمازون الكبير – سمي هذا النهر كذلك نسبة لطير الأوروبو الذي يقتات من الحيوانات الميتة – المتواجد بكثرة في المنطقة.

مقالات مرتبطة

وسط نهر الأوروبو

 

أول ما فعلته هو العوم في نهر الأوروبو لما لذلك من رمزية عندي “حلم الغوص الطفولي في الأمازون”. لون نهر “الأوروبو” الأسود تعطيه خاصية فريدة، سبب ذلك ماءه الحمضي الذي تكثر فيه الأملاح والنباتات ولأنه قريب من بعض الشلالات. يشترك معه في هذه الخاصية نهر ريو نيغرو غيير البعيد من هنا. ما يزيد السباحة في هذا النهر سحرا ومتعة كذلك هو تهاطل الأمطار الإستوائية بغزارة شديدة وبشكل متكرر. بينما كنّا نسبح كالأطفال الذين لا يخرجون من مياه الشواطئ خلال العطل إلا للأكل أو اللعب في الرمال، أخبرنا جوزي بأن نهيئ أنفسنا للذهاب إلى وسط الغابة لأننا سنقضي الليلة هناك، في الهواء الطلق، على أصوات القردة والحشرات والوحوش في الظلام الدامس …

وسط الأدغال. غابة الأمازون هي آخر ما تبقى من الأرض الأصلية الطبيعية إذا ما أخذنا بالإعتبار حجمها الشاسع الذي يغطي ٤٠٪؜ من مساحة أمريكا اللاتينية. لهذه الغابة أهمية محورية في التوازن البيئي لما تمده من أوكسجين ولما تحتويه من أشجار ونباتات وحيوانات. تقول دراسة نشرت في مجلة “نايتر” سنة ٢٠١٣ بأن بالأمازون يحتوي على أكثر من ٣٦٠ مليار شجرة من ١٦٠٠٠ صنف وثذيات من ٣٠٠ صنف وعصافير من ١٣٠٠ صنف وآلاف الأصناف من الزواحف وملايين الأصناف من الحشرات. جوزي هو مرافقنا خلال هذه الرحلة، يبلغ من العمر ٤٦ سنة، متزوج وله أربعة أبناء، يعرف مساحة كبيرة من الغابة المحيطة بنهر الأوروبو كما يعرف أبناءه. أجداده من السكان الأصليين للغابة، قضى عقودا من الزمن في تعلم ثقافة أجداده وطريقة عيشهم وله علاقة خاصة مع غابة الأمازون التي يعتبرها أم الأرض التي توشك أن تحتضر.

عندما سألت جوزي هل يفضّل أن يعيش في مدينة “متقدمة” كريو دي جانيرو أو ساو باولو في محيط يوفر له “الأمن” و”الأمان”، أو أن يعيش في الغابة بطريقة عيش أجداده قال : “إذا أردت أن أعيش في المدينة فيتوجب أن أقبل بأي مهنة لكي أعيش، هذا إذا كنت محظوظا ووجدت مهنة تناسب مستواي الثقافي وهذا كله لكي أضمن قوت يومي وقوت أولادي في وسط كثير الإزدحام والقلق والتلوث. أنا مرتاح الآن في الأمازون، علاقتي بالطبيعة لا تمكنني من الذهاب إلى مكان آخر لأنها كعلاقة الأم بإبنها، تعطيني أي شيء أريده وتوفر لي الأمن والأمان الذي تتحدث عنه.

فإذا كنت جائعا أذهب لكي أصطاد السمك أو أدخل إلى وسط الغابة لكي أجلب بعض الطعام من أعشاب أو حيوانات فأسد بذلك جوعي وإن أردت أن أنام فإني أربط “الهاماك” كما سترون عندما تنامون هنا في أي مكان في الغابة وأنام، لذا فلا فائدة لدي من أن أذهب وأعمل في المدينة لكي أعطي من وقتي وجهدي مقابل القليل من المال أخسره على طعام آكله ومأوى أنام فيه”. أردت أن أسأله أسئلة في هذا السياق فقاطعني : إذهب وحضر مستلزماتك. الليل طويل وسط الغابة وسنتحدث عن كل ما تريده هناك.
“يتبع”

1xbet casino siteleri bahis siteleri