العاطفة هي المؤامرة

كثيرا ما تنجرف الأحاديث إلى الميولات والهوايات والنجم واللاعب المفضل، يبدأ النقاش هادئا ثم ما يلبث في تسريع وتيرته شيئا فشيئا. تكون الأمور هادئة إلى أن يكشف كل شخص عن ولاءاته.
الأمر يبدو متشابها من السياسة إلى الرياضة إلى الفن، يستميت كل فرد في الدفاع عما يظنه حقا، ويبدأ كل واحد بسياقة الأسباب الموضوعية لتعلقه غير الموضوعي، بل ويذهب في الحجاج مذهب العارفين العاقلين، ثم سرعان ما يتحول ذلك الحجاج المنطقي إلى غضب وصرخات من هنا وهناك.
الاعجاب والتعلق بالأشياء لا شك أنها مرتبطة بالعاطفة أساسا، فإذا ما سألت أحدهم لم تشجع الريال ولا تشجع البارصا أو الأتليتيكو فقد يسوق لك من الأسباب الموضوعية ما يكاد يقنعك، لكنه يعلم يقينا أن تعلقه ذاك مجرد من المنطق، بل تحكمه الميول وارتباطه بالفريق منذ زمن الطفولة أو شيء لا تفسير عقلاني له بالمرة، وهذا ما يفسر استمرار الناس في تشجيع أبطالهم المفضلين رغم إخفاقاتهم المتكررة لأن ارتباطهم بهم أصبح ارتباطا عاطفيا يلبي حاجة ما بداخلهم.



أحيانا تكون تلك الحاجة هي الرغبة الملحة في الانتماء، الرغبة في أن تنسب نفسك لاسم له وزنه في العالم، يبدو الأمر كرد فعل دفاعي يجعلك ترفض الانتماء إلى بقعة بئيسة فتحاول التعويض بإيهام نفسك أن انتماءك الحقيقي هو لأولئك الذين تشجعهم، الأمر ليس صحيحا دائما بل يحدث أن يتعلق المرء بمشروع أو فكرة لأنه يؤمن بها أو يعجب بفنان لأن له قضية أو يصفق لفريق أو لاعب لأنه يؤدي باحترافية أو يعجب باللعبة لأنه يملك الشغف اتجاهها.


لكن السؤال يُطرح عندما تتحول الميول و الأذواق إلى موضوع للنقاش، لا يكون أساسه تبادل الأفكار وتلاقحها بل صراع الأقوى صوتا. تتحول المقاهي إلى ساحة معركة عقب كل مباراة مصيرية وينقلب الفايسبوك إلى فريقين أحدهما يتقن الهجوم والآخر يدافع محاولا منع تسديد الأهداف أو التشويش عليها، الأغلبية تنجر خلف عاطفتها وتعيش الحدث كأنه حدث شخصي، يصبح الأمر أكثر خطورة عندما تبدأ المراهنات : “1-0 العشا على حسابي…نهزمكم ب 3-0 و ها 200 درهم…” وغيرها من المراهنات الجنونية، ستحاول تذكير المتراهنين أنهم إذا كانو يدينون بالإسلام فالأمر محرم، سيتصرفون كأنهم لا يسمعون شيئا ففي تلك اللحظة بالذات لا يؤمنون إلا بدين الكرة.
إذا ما تجولت عبر الصفحات الرياضية التي من المفترض أن تسود فيها الروح الرياضية قد لا تجد تعليقا واحدا يسلم من لغة السب والشتم والاستهزاء…تتخاصم فلانة مع الفنان فلان فتبدأ الحرب الضروس بين نوادي المعجبين، حيث الأسلحة كلها مباحة من تلفيق أخبار إلى محاولات التهجم.

 

مقالات مرتبطة

تشاهد مباراة تنس بين لاعبين عملاقين، يتصافحان، يهمس أحدهما للآخر بكلمات تشجيعية، يتعانقان، يبتسمان، يغدق كل واحد منهما مدحا تاريخيا على الآخر، يتواجه مشجعوهم على صفحات المنتديات الرياضية أو مباشرة فيستفز الواحد الآخر، يكون اللاعبان قد أخذا حماميهما واستلقيا وألقيا عنهما ذكريات المباراة برمتها، بينما لا زالت الحروب الكلامية قائمة بين مشجعيهما الذين يصرون أنهم يقتدون بهما.
ستستغرب كثيرا عندما يخبرك شخص أن القضية الفلسطينية هي قضيته الأولى و أنه يكرس نفسه لها وهو يمقت ديكابريو على هذا الأساس لأن هناك إشاعات تقول أنه يدعم المشروع الصهيوني، تجيبه أن مهلا ألا تشجع ميسي وهو الذي سبق له زيارة حائط المبكى أ ليس دعما إعلاميا للكيان؟ لن يحار جوابا “ميسي مِلك للعالم ومواقفه السياسية تعنيه وحده، كما أنه لا يعقل أن يرفض زيارة مكان قدمت له دعوة خاصة لزيارته…وماذا عن ديكابريو؟ “ذلك ماسوني لا شك انظر لتهجئة اسمه ستتأكد أن له جذورا صهيونية”.



تجزم حينها أنه منطق اللامنطق، تتأمل الحروب الإعلامية التي لا تهدأ، الأحداث المتسارعة التي يعلق عليها الجميع ويدلون بدلوهم فيها، يتعاطفون تارة ويغضبون تارات، يغيرون صور بروفايلاتهم تضامنا ويدشنون الهاشتاغات، تتأمل تلك العاطفة الجامحة والحماس الحار الذي يعلو الوجوه حالما تتحدث عن موضوع دارج، تطلب في ظل الحماس أن تقوموا بخطوة عملية في الواقع فلا يتررد بإجابتك أن الوقت والمسؤوليات لا تسمح.


تبتعد قليلا وتتأمل أكثر في هذه الغوغائية السائدة في كل مكان، الجميع يريدون أن يغيروا هذا العالم لأنه بئيس ولأنه محكوم بقوى عالمية لا تنفك تتآمر حول أبناء المسلمين وتستضعف الشعوب العربية، بعضهم يقول إن المسرحية مرسومة ونحن لا نملك دورا فيها، لن يكفوا عن تكرار كون القوى العظمى تملك خططا مرسومة منذ عقود هدفها طمس هوية الانسان العربي، تجيبهم لكنكم تساهمون بشكل ما في هذه المؤامرة إذا افترضنا وجودها، سيؤكدون أنها موجودة و أنهم يحاولون توعية الناس لأخذ حذرهم، تؤكد لهم أن القوى العظمى لا تحتاج أن تتآمر ضدنا فالعاطفة هي المؤامرة.
كيف ذلك؟ عندما تعميك العاطفة عن إبصار ما تكونه حقا وعن إدراك دورك الحقيقي، حينما تجعلك العاطفة تبكي لأن لاعبك المفضل أصيب وتتجرد من من ذات العاطفة بينما تأخذ صورا وفيديوهات لشخص مغشي عليه بدلا من مساعدته، عندما تضطرب عواطفك اتجاه فواجع العالم وأنت لا تستطيع أن تخفف من وقع فاجعة ألمت بجارك، عندما يشغلك ثمن المقعد الأمامي في مباراة كرة بينما قد تمر يوميا بجوار جارتك الأرملة دون أن تفكر في المساعدة، عندما تعيش بكل جوارحك مع المتسابق الذي أقصي لأن الجمهور لم يصوت له بسبب جنسيته بينما لا يستفزك سلوك عنصري اتجاه زميلك في العمل، عندما تكرر كل يوم أنك تتمنى لو تسطيع فعل شيء لأبناء سوريا بينما العشرات منهم يفترشون الطرقات لاجئين في بلدك دون أن تفكر في مسح بعض الحزن عنهم والتخفيف من وحشتهم، عندما تعيش حياة الآخرين وتستغرق فيها لتهرب من واقعك وتنتشي بنجاحاتهم التي لن تغير في حالك شيئا ولا في حال أمتك، مواصلا بالمقابل وأد أحلامك الخاصة لأنك لم تؤمن بها كفاية، متعمدا إحباط أولئك الحالمين الذين يؤمنون بقوة الأحلام.
عندما تفعل كل هذا بوعي منك أو بدون وعي فأنت لا تحتاج لمؤامرة…عاطفتك هي المؤامرة.



1xbet casino siteleri bahis siteleri