تشريح الحب

إن الإقدام على الكتابة في موضوع مثل الحب، قد كَتب عنه الآلاف من الناس في كل الأزمان وفي كل الحضارات، مغامرة شديدة الخطورة، إذ ما الذي يمكن للكاتب أن يُضيفه إلى ما يعرفه الناس جميعا حوله؟ إلا أن الذي يُخفف من خطورة الكتابة فيه أن الكتابة بذاتها مغامرة. والوصف إذا ثبت للأصل هان ثبوته للفرع. كما أن موضوع الحب موضوع مجتمعي، ومعنى ذلك أن الموضوع وإن كان قديما، فأسئلته متجددة، ويُمكن مقاربتها انطلاقا من البيئة الاجتماعية لكل كاتبٍ، دون خشية الوقوع في تكرار ما قيل حوله. وكل مجتمع يُضمر تصورات معينة عن هذه الظاهرة الإنسانية، والتي تقتضي منا كل الجهد لمحاولة فهمها واستيعابها، طالما أنها تجربة إنسانية بدايتها لذيذة ونهاية غالبا ما تكون مريرة، وهي متكررة، نقع فيها جميعا.

في هذا المقال توصيف لبعض تصورات الناس عن الحب، وتقييم وانتقاد لها، ضمن منظور يستند إلى معطيات علمية لهذه الظاهرة العاطفية وما يصحبها من سلوكات غير مفهومة بين المحبين.

إن الناظر بعين فاحصة لما يعتمل في مجتمعنا، يجد أن هناك تصورات أسطورية حول الحب قد تؤدي أحيانا إلى فشل العلاقة الزوجية بين شخصين لا يعيان معنى أن يكونا معا زوجين. ومفاد هذا التصور أنه ما لم يستمر الزوجان في تلك الحالة العاطفية الهوجاء التي تكون فيها ضربات قلبيهما متسارعة عند ما ينظر أحدهما إلى الآخر، أو ما لم تبقَ صورة الزوج في نظر زوجته كالملاذ الآمن، والفارس المغوار، الذي سيحميها من كل الأهوال الطبيعية والاجتماعية، فإن الحب بينهما قد انقضى وانمحى، وأن علاقتهما الزوجية قد فقدت ركنا أساسا مما تنبني عليه الحياة الزوجية.

وهذا التصور للحب هو الذي يرى أن المحبيْنِ ليسا إلا نفساً واحدة، افترقت إلى جزئين، ثم صار كل جزء منها يبحث عن جزئه الآخر حتى تلاقيا أخيرا، وبعد اللقاء لن يكون بإمكان أي شيء تفريقهما، بل وأن التقاءهما، الذي تزامنت معه أحداث كثيرة، لا يمكن أن تكون من محض الصدف، بل هو من مشيئة وإعداد قوى ميتافيزيقية متعالية، بمعنى آخر: أن اجتماعهما قدر، وما كان قدَراً لا يمكن الإفلات منه.

ولعل التساؤل عن سبب نشأة الحب بين اثنين تساؤل قديم، ومحاولات تفسيره كثيرة، قديمة ومتجددة، لكنها في المجمل تتطبع بطابع الخرافات والأساطير.

هذا يجعلنا نتساءل: لماذا يميل الناس إلى تفسير حالات الحب بأشياء تنتمي إلى دائرة الخرافة، ولا تمت إلى منطق الأشياء بصلة؟

فالكثير من الناس يعتقدون أن الحب ظاهرة روحية ميتافيزيقية عميقة، غير أن العلم الحديث كما سأبين في هذا المقال يسير إلى منحى آخر…وهذا أمر لا يسر الكثير من الناس، لأنه يهدم تصورات حالمة مترسخة لديهم.

الوقوع في الحب من منظور علمي لا يعدو أن يكون تفاعلات كيميائية في الدماغ. وما نلحظه من أحوال المحبين يتحكم فيه أساسًا أربع نواقل عصبية رئيسية، وهي: الدوبامين والأدرينالين والنوادرينالين والسيروتونين. ينضاف إلى ذلك الحالة النفسية التي يكون عليها المحبين قبل وحين التقائهما، وذلك أنهما غالبا ما يعيشان حالة من الوحدة، والانعزال والانطواء على الذات قبل الوقوع في ما يسمونه بالحب الكبير. الأول والأخير.

كما يقول إيريك فروم: “حين يبدأ شخصان علاقة حب، يعتبران شدة الافتتان ببعضهما دليلا على قوة حبهما، بينما لا يبرهن هذا سوى على درجة وحدتهما السابقة.”

ومعنى هذا أن كل الأفعال التي يقوم بها المحبون في هذه الحالة، وكل الوعود التي تُقطَع، وكل الأحاديث الجميلة التي تتم بينهما، من مثل أنهما خُلقا في الأصل ليكونا معا، ولا قدرة لشيء، كائنا ما كانت قدرتُه وسلطتُه، أن يفرق بينهما، فحبهما يعلو ولا يُعلى عليه، فلا يوقفه إلا أقدار إلهية عبر الموت. إن هذا كله يتم تحت تأثير هرمونات في الدماغ.

فهرمون الدوبامين مسؤول عن تفسير حالة الإدمان التي يكون عليها المحبيْن، إذ أظهر الباحثون أن الشخص، أثناء وجوده مع من يحب، يكون في حالة شبيهة بتناول منشط الكوكايين. فيَغمر الدوبامين دماغه، ويملؤه نشوةً وقوة وشعوراً بالرضى، وذلك يجعل الحياة تنكشف له، فتتضح له أولوياته في الحياة، وذلك يؤدي به إلى حالة من الشعور بالسعادة، لكنها سعادة مؤقتة إذ سرعان ما تنمحي، عندما تذهب آثار هذا الهرمون، لِيشعر بعدها مباشرة بحالة من الضجر والإحباط الكبيرين، فيدفعه ذلك إلى معاودة الاتصال بمحبوبه. وهكذا تدور حياته كلها حول هذا الشخص، ليتحول الأمر إلى عدم قدرته على التخلص منه، ويصير وجود هذا الشخص هو الذي يُضفي المعنى والمتعة على حياته، فيَنشأ لديه وهمٌ أو اعتقاد مفاده أنه لن يستغني عن هذا الشخص أبدا.

وتحت تأثير هذه الحالة، يطلق المحبُّ العنان لكل شيء، لتقييمه لقدراته، فيرى أن كل صعب عليه يهون، وأن كلَّ شدةً تزول، وأن كل طموح متحكَّم فيه، مقدور عليه، فيصور نفسَه بطلا خارقا، ومحبا تاريخيا، بحيث يُخيَّلُ إليه أن حبهما يفوقُ ما كان مِن عنترة وعبلة، وقيسٍ وليلى، وروميو وجولييت، وإذا كان على مستوى معين من التعلم يشرع في نظم بعض الأشعار الغزلية، -وإن كانت بمعايير الشعر الحقيقية لا تعدو أن تكون هراء، تُنزَّه أذُن السامعين عن سماعه-، وتتأثر محبوبته بتغزله فتشرع بدورها في التفاعل إيجابا معه، ومن ثم تنطلق الخيالات حول الحب السرمدي والسعادة الأبدية، ويتخيلان أنهما سيعيشان فوق السحاب، وسيقاومان كل تحديات الزمن والعوائق الطبيعية والاجتماعية، وسيلدان أنجب ما أنجبه زوجان، وأذكى من حملت به أنثى، بطلا آخر من صلبهما سيُخلّص هذا العالم من بؤسه وظلامه الشديدين.

ولا يتوقفان هنا، بل يقومان بتقييم بداية تجربة حبهما بأثر رجعي، فيعودان إلى البدايات، ويحاولان أن يضفيا على تعرفهما الأول ملامح أسطورية، بل وقد يزعمان أن حبهما كان من أول نظرة، وتلك أسطورة أخرى، لا يَكادُ عاقلٌ يُصدِّق أن الناس مَن يُصدّقُها.

وخيالية المشهد لا يشعر بها إلا مَن يقفُ خارجه، ويلاحظه من بعيد، دون أن يكون متورطا فيه. وللمرء أن يتساءل: كيف لشخص عاقل، أن يُطلق العنان هكذا بدون قيود لخياله، ويتفوه بكلام وردي يفتقد إلى أية معقولية أو عقلانية؟ كيف لشخص بشوارب طويلة، ولحية كثيفة، بدأ الشيب يغزوها، أن يقطع المسافات الطوال ليشتري دبا صغيرا بلون أحمر، يتوسطه قلب بلون أبيض، لِيُقدمه لشخص آخر يبادله الحب، احتفالا بمناسبة معينة تافهة؟ وهو قبل التقائه بتلك السيدة، ما كان يتخيل نفسه أن يفعل ذلك. وهي أيضا، ما أن تتسلم الهدية حتى تجدها قد تراجعت سنوات إلى الوراء، وتتصرف وكأنها للتو قد بلغت الحلم، وتنظرُ إلى العالم من حولها بنظرة مراهقة لم تختبر من الحياة ما يؤهلها لترى بعين بصيرة حقيقة الأشياء. فالعالم بالنسبة إليها ليس إلا عالم دببة بألوان حمراء وبيضاء، وفراشات، وورود واحتفالات. وأن أية علاقة زوجية تفتقر إلى هذه الأشياء هي بالضرورة علاقة فاشلة، يجب أن تنتهي، وكل استمرار لها هو خروج عن قوانين الطبيعة، وقبول بوضع شاذ لا ينبغي القبول به.
وأما فوضى الحواس التي تصاحب حالة الحب، وذلك الشعور بالحافزية الكبيرة المرافقة للشعور بالعصبية، وزيادة القوة، واشتداد الرغبة، وانخفاض الشعور بالألم مع حساسية مفرطة، وتسارع ضربات القلب، فإن المسؤول عن تفسير ذلك كله هو إفرازات هرمون الأدرينالين، الذي يسمى أيضا بالإيبينيفرين. وهو هرمون يشعرك بيقظة وانتباه شديدين، مما يؤدي إلى إفراز هرمون آخر مكمل له، وهو هرمون النورادرينالين أو النوريبينيفرين، والذي تنتُجُ عنه حالةٌ من الأرق وفقدانٍ للشهية. وقد حاول الروائي والرسام ثيودور سوس جيزل وصف هذه الحالة، في مقولة له مشهورة، قائلا: “تكون على يقين بأنك تحب عندما لا تستطيع أن تغفو أو أن تنام؛ لأن الواقع الذي تعيشه أفضل بكثير من الأحلام التي اعتدت عليها”.

وأما آخر هذه الناقلات العصبية الرئيسية فهي السيروتونين، والذي يعد، حسب العلماء، المسؤول عن تنظيم مزاج الإنسان والتفكير المستمر بمحبوبه. فالشخص في حالة الحب، ينخفض لديه هرمون السيروتونين إلى مستوى مماثل للأشخاص الذين يعانون من اضطراب الوسواس القهري، وهذا الانخفاض هو المفسر للتفكير المرضي في المحبوب، والذي قد يصل في بعض الحالات إلى الهوس.

وبالموازاة مع الانخفاض في مستويات هرمون السيروتونين الذي يرافق الوقوع في الحب، ترتفع مستويات هرمون الكورتيزول، وهو الهرمون المسؤول عن التوتر والإجهاد في المقام الأول. وهذا يعطي إشارات إلى الدماغ يستحثه بالاستعداد إلى “معركة حامية الوطيس” ضد “حالة طارئة ومجهولة الهوية”؛ لأن الوقوع في الحب أشبه بقفزة في المجهول، إذ تراودك مشاعر جديدة، وتتوتر بشكل غريب، ولا تجد لذلك تفسيرا مقنعا، كما أنك لا تتحكم في العواقب التي قد تحدث من بعد ذلك. وهذه الحالة الشعورية التي يمتزج فيها اضطراب المزاج بالاستعداد لمعركة لذيذة، يتولد عنها انشغال وافتتان شديدان بمن نحب، فننتقل من رؤية مَن نحب في حياتنا، إلى رؤية حياتنا فيمن نحب، ومن ثم ينتقل الأمر من قضية حب إلى قضية موتٍ وحياة.

بالإضافة إلى ما سبق، لا يمكننا أن نُغفل أن الحب في صيغته الرومانسية تعد فيه الشهوة الجنسية أساسيةً، وهي أيضا تزيد من شدة التعلق بالآخر، وشعورنا بالرغبة الجنسية تجاه شخص معين، ناتجة عن هرمون التستوستيرون لدى الرجل، كما هو معروف، بحيث كلما زادت نسبته في أجسامنا زاد نهمنا الجنسي. والرغبة الجنسية الجامحة يمكن أن تؤدي في النهاية إلى حب رومانسي، وذلك لأن الروابط الهرمونية تسير في الاتجاهين، ويمكن أن يؤدي الارتفاع في هرمون التستوستيرون إلى تسهيل الزيادات في الناقلات العصبية التي تسبب الحب الرومانسي.

وبعد؛
فإن كلّ ما سبق لا يعدو أن يكون وصفا لما يحدث لنا عندما نكون في حالة حب، والسؤال: لماذا نشعر بكل هذه الأحاسيس مع شخص بعينه دون شخص آخر؟ ولماذا يبدأ جسمنا بإفراز كل هذه الهرمونات عند مقابلة شخص أو مرافقته أو الحديث إليه دون غيره من العالمين؟

إن الفضيلة تقتضي أن نعترف أن حمار الشيخ يقف في عقبة الإجابة عن هذا السؤال عاجزا مدحورا، ولا تُسعفنا معارفنا في تقديم إجابة لهذا الأمر، وكل ما وقفت عليه مما قيل عن تفسير هذا الأمر ليس فيه ما يُقنع، ولا يعدو أن يكون توصيفات تطغى عليها العاطفية والرؤية الخيالية للحب. ومن ذلك، على سبيل المثال، فرضية أن لكل واحد منا خريطةً ذهنية لاواعية عن الشخص الذي يكمّله، والذي يريد أن يحبه، ولأجل ذلك يَسقط في حبه حتى قبل أن يلتقيه، ويبحث عنه في وجوه الآخرين. ولعل رائدة هذا الاتجاه في عالمنا العربي هي الكاتبة أحلام مستغانمي ؛ إذ كتبت في فوضى الحواس قائلة: “الحب ليس سوى حالة ارتياب؛ فكيف لك أن تكون على يقين من إحساس مبني أصلًا على فوضى الحواس، وعلى حالة متبادلة من سوء الفهم يتوقع فيها كل واحد أنه يعرف عن الآخر ما يكفي ليحبه. في الواقع هو لا يعرف عنه أكثر مما أراد له الحب أن يعرف، ولا يرى منه أكثر مما حدث أن أحب في حب سابق. ولذا نكتشف في نهاية كل حب أننا في البدء كنا نحب شخصًا آخر!”

فهذا ختام الكلام في هذا الموضوع، الذي حاولتُ أن أقرّبه إلى القارئ الكريم بأسلوب مبسط، قريب إلى الفهم، لصيق بالواقع. وموضوع الحب لم يزل يثير شهية الكتاب، وفضول العلماء، ولم يسلم من إغراء الكتابة فيه حتى الزهاد والفقهاء والمتصوفة، منذ أن كتب ابن حزم طوق الحمامة، وبعده ابن القيم روضة المحبين، والكتابات فيه تترى وتتتابع، ولعل أشهر ما ألف فيه في الآونة الأخيرة هو فن الحب لإريك فروم والحب السائل لباومان زيجمونت. وكلٌّ يُقاربه من منظورٍ مختلفٍ، وزاوية مختلفة، وإذا تغيرت زاوية النظر تغيّر الحكم، وكلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri