تنهض الأمم بالأفكار

ألا يقال دائما أن كل شيء يبدأ بفكرة وأن الأفكار هي المحرك الأساسي ولبّ كل تجربة وأن ما من أمة نهضت أو تَقَوَّضت إلا بفكرة. تخيل معي أن تكون الفكرة “لا يتعدى الطفل الذكر المستوى السادس ابتدائي ولا يجدر بالطفلة الأنثى أن تدرس أساسا يكفيها أن تتعلم الأبجدية والحروف وكفى” تبدو فكرة مرعبة أليس كذلك؟ المرعب في الفكرة أنها لا زالت تستمر في الحياة ولا زال يتوارثها الأبناء فيما بينهم. كنت ومثلكم أعتقد أنها بدأت بالانقراض مع كل ما وصلنا إليه من تقدم وتطور وتكنولوجيا وحقوق الطفل والأنثى ومؤسسات وجمعيات كل يجري وراء إحداث تغيير في مجال ما، حياة شخص ما…إلا أن التجربة الاجتماعية الإنسانية التي خضتها مع رواد المغرب الشباب في إحدى القرى نواحي إيمنتانوت أثبتت لي العكس وكشفت لي عن طاقات بشرية رهيبة مآلها الوأد والدفن بسبب فكرة أحدهم فني منذ زمن ولا أحد يذكر تفاصيله ولا شكله ولا مبادئه ولا أي شيء يخصه.

لا شك أنك تختلق الأعذار كما فعلت لتجد تبريرا منطقيا يجعل الآباء على حق في اتخاذهم قرار مثل هذا وفي زمن كهذا، لكني هممت إلى أستاذة المستوى الابتدائي لأجد أجوبة لكل الأسئلة التي سببت فوضى عارمة في رأسي فإذا بالأستاذة تخبرني أن القسم الذي يدرس فيه أطفال الدوار المستوى الابتدائي يبعد عنهم بمتوسط نصف ساعة وما إن يتمم التلميذ المرحلة الابتدائية ينتقل إلى بيت الطالب بمدينة إيمنتانوت حيث يتمم الإعدادية والثانوية ويحصل على شهادة البكالوريا مع إمكانية زيارة عائلته كل نهاية أسبوع مستعينا بالنقل المدرسي، كما حدثتني عن تلاميذها وكيف ترى نورا يشع في معظمهم وعن حكمتهم ومثابرتهم وذكائهم وقدراتهم وأحلامهم وأكدت لي عن يقين أن منهم من يستطيع تحقيق الكثير من النجاحات والإنجازات لولا الفكرة المظلمة التي يتبناها الآباء، وأخبرتني عن محاولاتها المتعددة للتحدث معهم، لإقناعهم، لكن مع الأسف معظمها يبوء بالفشل وبتبريرات مفادها الطفلة لا يجدر بها أن تبتعد عن أهلها لتظل عفيفة مصونة لتتزوج بأحدهم وأن الطفل يجدر به إعالة أبيه في ما يعمل فيه وأسباب أخرى منها ما هو مادي ومنها ما هو من باب الخوف والجزع ومنها ما هو تقاليد وأعراف.

نعم لا أنفي ولا أنكر أبدا أن الظروف صعبة وأن الأمر يصعب من قرية إلى قرية لكن هذا لا يبرر أبدا تبني فكرة تمنع طفلك أن يدرس أو على الأقل أن ينال شهادة الابتدائية يذوق بها حلاوة العلم والكتب والثقافة، لعل وعسى تساهم في عدم نقله للفكرة لأشباله في المستقبل وسعيه جاهدا للسهر على تعليمهم والتضحية معهم.

مقالات مرتبطة

ولا يمكن أن ألوم في هذه الواقعة الآباء فقط بل كل مسؤول يستطيع أن يساهم في تغيير هذه العقلية بشكل من الأشكال، أن يجد حلا لكل مشكل يطرحه الآباء في هذا الموضوع ولا يفعل فهو ملام أيضا. فقد رأينا وشهدنا كيف استطاع العالم إيصال فكرة خطورة كوفيد وضرورة المكوث في البيت وتطهير وتعقيم كل ما يدخل إليه ولا يمكن لأحد منا أن ينفي أنه عقم نفسه وملابسه والمعلبات وحتى القطع النقدية أيضا، فمن أين نبع كل هذا؟ وكيف وصلت هذه الفكرة إلى كل ربوع العالم عموما والمملكة خصوصا؟ أليس الجهل مرضا فتاكا أيضا يجب محاربته بكل شكل من الأشكال وكيفما كان الثمن؟

الجهل يا سادة عدوٌّ لذوذ للإنسانيَّة حاربه الإسلام وتتبعه في كل وكر من أوكاره وفي كل لون من ألوانه: حارب جهالة الشرك بالتوحيد وحارب جهالة التقليد بالنظر والبرهان وحارب العادات الممقوتة والأوهام الفاسدة بالحقائق الصادقة وقبل ذلك كله حارب الأمية وأوحي تعليم الكتابة ورفع من شأن القلم وحسبنا في ذلك أن أول نداء افتتح الله به وحيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ}. وقد أدرك المسلمون الأولون قيمة العلم ومنزلته في نظر الإسلام، وضرورته لسعادة الأمم والأفراد، وكانوا أمَّة أمِّية فجَدُّوا في محو أميتهم بكل الوسائل: أطلقوا سراح الأسير إذا علَّم عددا من أبناء المسلمين القراءة والكتابة، جعلوا تعليم القرآن مهرا في الزواج، رفعوا بالعلم مكانة الخامل، فكان العلم نسب الوضيع وغنى الفقير وقوة الضعيف فكأن لسان حالهم كان يقول: “لا حبّذا الجهل ونعم المسلم العالِم”

إن ما تفعله الجمعيات الخيرية الآن من حفر للآبار وبناء للمدارس ودور القرآن وتبرعات وملابس وإصلاحات وتأهيل ومساعدات مادية وبناء مشاريع لا يجعلنا إلا أن نفخر بهم وبانتمائنا لهم، وأعتقد أنهم يستطيعون بشدة الاجتهاد لإيجاد حل لهذه الفكرة وتغييرها أعرف أن المهمة ليست بسهلة أن تنتزع فكرة وتعوضها بأخرى من عقل آمن بها وتوارثها عبر أسلافه إلا أنه ليس مستحيلا وممكن جدا، وهذا ما كنت أناقشه مع إحدى الصديقات التي أثارها نفس الموضوع في طريق العودة أخبرتني ولا زالت تخبرني أنه يجدر بنا أن نفعل شيئا ما أن نكون صوتا لأطفال القرى، أن لا نترك فوضى حياتنا تنسينا أن هنالك أطفال يحلمون فقط أن يدرسوا لا غير حلم واحد!

ولأن البشر بكينونته يؤمن بما يراه أكثر مما يسمعه فأعتقد لو أننا استطعنا إقناع القلة منهم وساهمنا بشكل من الأشكال في تدريس بعضهم وتتبع مسارهم الدراسي وتوجيههم ومساعدتهم على اغتنام الفرص إلى أن نطمئن عليهم لربما تجرد أهل القرى من مخاوفهم وآمنوا بأن تعليم أبنائهم أكبر إنجاز قد يسعى له كل أب وأم في هذه الحياة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri