ورقة بيضاء

رن الجرس فخطوت بين الصفوف مرتبكة، شددت إلي وزرة رتبت أمي أزرارها ثم كوتها استقبالا لعام جديد، على كتفي جديلة متحفزة ومقلتي تبحثان عن مقعد أفر إليه من ألحاظ تفترسني، تخترقني ثم تشيح، فأداري اضطرابي ببسمة مرتجفة أبتلعها على عجل، ثم يظل المقعد جواري خاليا. سطر الأستاذ على السبورة نص موضوع إنشائي: “تحدث عن عودتك إلى المدرسة”، فانتبهت أن لا ورق بمحفظتي، والتفتت يمينا ويسارا مستجدية غوثا فدفعتني الملامح الجامدة بعيدا. ابتلعت ريقي إذ التقاسيم الصغيرة لا تداهن أو تبالي، وأنا الوافدة لا خل ولا صديق. دسست يدي في محفظتي واستخرجت دفترا تقصدت وجلة قلبا نزعته محاذرة خفقا يفضحني، فزجرني الأستاذ ولما يرفع عن اللوح طبشورته:

– لن يكمل دفترك ذاك الأسبوع، ومن أهان دفتره كان لتحصيله أضيع!
ازداد انكماشي فغصت في مقعدي عميقا، ما كان أول حكم قيمة أستفتح به موسمي الدراسي! حكم يصفد الأحرف على لساني فلا يبرحن مخارجهن، ويمترسني بطاولتي فأتخذ مسافة من أساتذتي ولا أقترب إلا بقدر، ثم أقي وجهي حد النصال بمجن الكد والتحصيل حتى يجنحوا للسلم، فأتنفس الحرية.

كان ظهر الأستاذ إلينا، بينما تتراقص طبشورته رشيقة على اللوح الأسود، وكأنما الكلمات تصدر عنها لا عن إرادته؛ انقضاء عطلة الصيف… شوق إلى الأصدقاء، فرح بالعودة إلى مقاعد الدراسة، بهجة الدفاتر والألوان… الجمل عينها، حفظتها، مللتها، كأنها المحراب فلا يمر عام دون الوقوف عنده والتبتل! غير أني يا أستاذ أحن إلى مدرستي القديمة، إلى أصدقائي وذكرياتي هناك.. -غمغمت شاردة- باب مدرستكم وقر على الأضلع يخنق مني الصدر، والوجوه المبثوثة فوق الطاولات باردات، تزيد غربتي وأتوق للفرار، فهلا أعفيت قلمي مذلة المداهنة؟ حدجني أستاذي صارما فانكفأت على ورقتي يستحثني الصرير على الإذعان. خط يراعي ما عنّ له وقد فر إلى عالم الخيال؛ فأبواب المدرسة مشرعة وزهور حديقتها متفتحة ولوح القسم لامع بهي بينما أصدقائي عصافير مهاجرة تحط بربى العلم كلما رن الجرس! قدمت ورقة لا أجد لمداد سفح على أسطرها صدقا ولا طعما، وددت وقد وضعتها على المكتب أن أهتف: أ راض عن هذا الكذب يا أستاذ؟

ولم يطل انتظاري إذ جاءني الرد مديحا وتشجيعا، وإذن لا مناص من الاستمرار… يقول في حصة أخرى: تحدث عن زيارتك لمراكش واصفا جمال الطريق ومتعة الاستماع إلى حكواتي جامع الفنا! شبكت عشري على رأسي من حيرة ثم رفعت سبابتي فانعتق لساني:

– ما غادرت يوما حدود الإقليم الذي أنتمي إليه قط. لا ذنب لي إن لم أحب السفر أو كانت الأشجار الناكصة على أعقابها تصيبني بالدوران، لا أستمتع بالطبيعة إلا إذا انطلقت في أرجائها قفزا أو ارتميت في أحضانها لتما ومنجاة، أبدا لا تستهويني مراقبتها من وراء زجاج الحافلة المتسخ، فلم تصنع لذكرياتي قالب حديد تضغطها داخله ثم تعيد تشكيلها وفق هواك؟ هل لي أن أغير الموضوع أو أمتنع عن الإجابة؟

تطلعت إلي المقل الصغيرة بفضول، وسرت بين الصفوف همهمات الغمز واللمز، بينما رفع الأستاذ حاجبيه مندهشا، صمت برهة قبل أن تنفلت الكلمات من بين شفتيه حاسمة مقتضبة:
– حاجتنا إلى خيالك لا تجاربك.

عدت للغمغمة:
– أريد أن أحدثك عن ذكرياتي كما هي، عن أحلامي وطموح يجمج بي بعيدا عن السيف المسلط على أجنحتي الغضة، هل لي أن أخط ما أشاء ويشاء قلمي دون خوف من سوط التقريع ومقصلة التنقيط؟

ضرب الأستاذ كفا بكف وأرسل إلي بسمة مهونة ألقمتني ارتباكا غصت فيه وترعرع في، انغرزت فيه، ثم كبرنا معا.. لازمني كوزرة ما خلعتها وإن غيرت السنون قصتها، وغيرتني. ثم رن الجرس، واتخذ التلاميذ سبيلهم إلى الحجرة سربا، لم أزاحمهم ولم يدافعوني، تعقبتهم مضطربة الخطو، لم ألتحق بصفوفهم كعادتي بل صرت قبالتهم، تطلعت إليهم هنيهة ثم استدرت فصاروا إلى ظهري وامتد أمامي شاسعا اللوح العتيق، رفعت طبشورة مرتعشة وخططت في السواد: “انقضت العطلة الصيفية بمباهجها وحان موعد الجد والتحصيل، تحدث في بضعة أسطر عن ما اجتاحك من مشاعر عشية الدخول المدرسي.”

تطلع إلي الصغار بفضول، تساءلوا عما ينبغي كتابته… شرحت باقتضاب فاستغلق الأمر… تبادلنا الاستفسار والأجوبة… ثم وضعنا للنص قيدا ولما يصدر صرخته الأولى! عدت إلى البيت مساء محملة بغنيمة متنوعة، وضعت الأواق على المنضدة ثم شرعت في تفحصها:

-الورقة الأولى؛ نص لطيف لكنه يفتقر إلى علامات الترقيم، معالجة الأمر لن تتطلب وقتا كبيرا.
-الثانية: نص جميل لولا أنه يعج بالأخطاء الإملائية واللغوية. ورفعت أناملي لأفرك بهن فروة رأسي المنتفخ.
-جمل متفرقة لا يربطها رابط.. لتبدأ ملامحي في الانقباض فألتمس العون من فنجان قهوة، ثم: -لسان دارج وخط غير مقروء، الأمر يزداد صعوبة..
-ورقة أخرى، جملها جيدة التركيب وإن نأت عن الموضوع وشدت بعيدا، تلمع الدهشة في مقلتي بغتة فأمد يدي إلى محفظتي لأستخرج كتاب المتعلم، أقلب صفحاته فأعثر على النص المنقول عينه، وأضرب شأن معلمي كفا بكف.
-ورقتان متطابقتان، غش صراح. ثم صارت مقلتاي تتقلصان في تبرم وضيق:
-ورقة ضائعة المعالم، يبدو أنها لمتعلم يعاني التعرق المفرط، يمتزج عرق كفه بمداد قلمه لتبدد جهد المسكين.
-ورقة اكتفى صاحبها بإعادة تسطير نص الموضوع. ثم:
-ورقة بيضاء، ناصعة البياض، خالية من آثار الحبر، فارغة… فارغة تماما… أبعدها ثم أعد على منضدة التصحيح الأوراق فإذا بهن تنقصن واحدة. أعيدها مكانها فيكتمل العدد.. توقفت عندها مليا. أقلبها بين يدي ثم أدنيها من عيني، من أذني، أمرر عليها أناملي أتحسسها أنفضها علي أفك رموزها أو أسمع همسها، صرختها، تكتمها أوبوحها.. ويصفعني صمتها المبين.

1xbet casino siteleri bahis siteleri