خواطر من المدينة المنورة

الفراق بطبعه صعب، لكن فراق المدينة المنورة أصعب … السكينة والطمأنينة وراحة البال التي أحسست بها طوال مدة إقامتي هنا نادرة جدا، قد لا أجدها في مكان آخر.
لا يطيب خاطري إلا في طيبة وليست هناك مدينة تسكن فيها نفسي ويستقر فيها حالي وينشرح فيها صدري ويزول فيها غمي وهمي كالمدينة المنورة. كل من يزوز المكان يؤكد هذا الكلام؛ بأنها شفاء العليل، ودواء السقيم.
قد لا يلين القلب في مكة، ولكنه يرق عندما يدخل المدينة ويشم رائحتها ويدخل مسجد رسول الله ويسلم على أطيب الخلق.
تحس في مكة بالهيبة والخشية وجلال الدين وهول الآخرة، وتحس في المدينة بالراحة والسعادة وجمال الدين وبشرى الآخرة.
ليست المدينة كمكة…إحداهما تكمل الأخرى وفِي كلتيهما سر لا ينكشف إلا للعارفين وبركة لا يدركها إلا العاشقون…تعجان بالمعاني التي تتجلى بوضوح لمن كان عقله حاضرا وقلبه ناظرا وحسه مرهفا.




تأتي الناس إلى المدينة حبا وشوقا ورغبة في وصال الحبيب، والسلام عليه، والصلاة عليه في مسجده بالقرب من قبره، وطلبا في شفاعته وليس لضرورة ملحة، كالقيام بركن من أركان الإسلام، أو إتمام محطة من محطات العمرة ؛ فبإمكان المسلم أن يتم عمرته أو أن يكمل حجه بدون أن يتكبد عناء الطريق وسط الحر للمجيء إلى طيبة، كما بإمكانه أن يذخر مال التنقل إلى المدينة والإقامة بها لكي يشتري به ما اشتهت نفسه من أسواق مكة المعروفة، ولكن تأبى هذه النفوس إلا أن تكمل سعادتها بزيارته صلى الله عليه وسلم بعدما طافت بالبيت وصلت وراء المقام وسعت بين الصفا والمروة.

في كل مرة أدخل المسجد النبوي، يخيل إلي بأني سألتقي إمام الأصفياء وسيد الحنفاء وخاتم الأنبياء في جنبات الحرم، متكئا لوحده على إحدى الأسطوانات وهو مغمض عينيه منشغل بالذكر والتسبيح، يفتحهما تارة ليرد السلام على أصحابه ويغلقهما تارة أخرى ليعود إلى عوالم النبوة الخاصة به؛ أو يتوسط إحدى حلق العلم التي يحضرها المبشرون من أصحابه : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير بن العوام وعَبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد.

أسير فوق أرض المسجد باحثا عنه؛ هذه الأرض التي وطئتها قدميه وأقدام العشرة البررة وأقدام الصحابة الكرام اللذين قرأت سيرهم العطرة وأثرت في نفسي مواقفهم النادرة، هؤلاء الرجال التي كانت أرواحهم معلقة بهذا المسجد الشريف وبروح النبي المصطفى المختار الذي كان في كل مرة ينير بصائرهم بسر من أسرار الوجود، وإسما من أسماء الله الودود لكي يزدادوا إيمانا مع إيمانهم، ويعلمهم مما علمه الله من الكتاب والحكمة ويعطيهم من الأنوار الربانية والدروس النبوية ليكتمل نورهم، يهدي الله لنوره من يشاء من عباده.





يخيل إليّ بأن موعد اللقاء به قد اقترب فأبدأ بتحضير بعض الأسئلة المؤرقة والمعقدة والمركبة والمتشعبة التي لم أَجِد لها أجوبة شافية كافية تريح العقل والروح وتأخذ بعين الإعتبار ما وصلت إليه البشرية من اكتشافات علمية دقيقة، وما وصل إليه الإنسان من تطور مجتمعي وتعقيد نفسي وسهولة تواصل وإيجاد للمعلومة وكثرة بحوث في شتى المجالات. فعندما يذكر النبي محمد أستحضر ثلاثية لا أجدها في شخص آخر : الاعتدال في الدين والتوازن في الحياة والحكمة في الجواب، فكان صلى الله عليه وسلم يجيب على نفس السؤال بطرق مختلفة باختلاف البيئة التي نشأ فيها السائل والمقصد والباعث من سؤاله.

أعتقد اعتقادا لا ينتابه شك بأن الله خلق كل واحد منا لأداء رسالة دنيوية مختلفة عن الآخر، وأعطى لكل منا موهبة وقدرة وطاقة مختلفة عن الآخر، ولا يزال سبحانه ييسر لكل واحد منا الظروف ويضع على طريقه الأشخاص والعلامات لكي يفهم الغاية التي خلق من أجلها؛ فيختلف الناس بين ذي عقل يتفكر في أحوال نفسه وتسلسل حياته فيفهم الغاية وتصله الرسالة فيمضي لتأديتها، وبين من لا ينكشف له ذلك فيعيش كما تعيش الأَنْعَام بين أكل وشرب ونوم ومعاشرة. كما أؤمن إيمانا غيبيا بأن الدنيا إلى زوال وأن الغاية الدنيوية والرسالة الشخصية التي سنؤديها في دار الفناء يجب أن ترتبط بدار البقاء لكي يكون لها معنى.

فمن أسئلتي إليه كيفية إدراك قمة الغايتين : الدنيوية والأخروية بدون أن تؤثر الواحدة على الأخرى، وكيفية ربط الواحدة بالأخرى مع أن طبيعتهما مختلفتين فالأولى مادية محسوسة تشتهيها النفس والثانية غيبية غريبة لا يدركها لا العقل ولا الحواس ولكن تدركها الروح : تلك النفخة الربانية فينا التي تتشوف وتتشوق الى العوالم العلوية… الرسول عليه السلام كما أتصوره وكما قرأت سيرته سواء في الرحيق المختوم للمباركفوري أو في فقه السيرة لمحمد رمضان البوطي أو في حياة محمد عليه الصلاة والسلام لطارق رمضان أو في كتب المستشرقين ككارين أرسمترونغ “محمد نبي لزماننا” أو كما أسمع في أحاديثه الصحيحة يمثل بالنسبة لي قمة الحكمة والتوازن وأنه خير من حقق الغايتين وأحسن من ربط بين الدارين في قالب واحد وليس عندي أي شك بأن جواب هذا وأسئلة أخرى تؤرقني سيأتي وقت ذكرها على طرفة لسانه

مقالات مرتبطة

قال مايكل هارث عن هذا التوازن الفريد :

“إن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل أسمى وأبرز في كلا المستويين الديني والدنيوي .. إن هذا الاتحاد الفريد الذي لا نظير له للتأثير الديني والدنيوي معًا يخوّله أن يعتبر أعظم شخصية ذات تأثير في تاريخ البشرية”

وقال علي عزت بيجوڤيتش في كتابه الشهير “الإسلام بين الشرق والغرب” يتحدث عن هذا التوازن الذي لم يميز شخصية الرسول صلى الله عليه فقط بل شملت كل الدين الإسلامي :

“فكما أن الإنسان هو وحدة الروح والجسد، فإن الإسلام وحدة بين الدين وبين النظام الإجتماعي، وكما أن الجسم في الصلاة يمكن أن يخضع لحركة الروح، فإن النظام الإجتماعي يمكن بدوره أن يخدم المثل العليا للدين والأخلاق. هذه الوحدة الغريبة عن المسيحية وعن المذهب المادي معا، ميزة في الإسلام بل هي من أخص خصائص الإسلام “

أسئلتي إليه كثيرة قد لا أجد جوابا لها اليوم، ربما لا أَجِد جوابها في مسجده خلال مدة إقامتي في المدينة المنورة أو خلال مدة من الزمن … لكنها حاضرة باستمرار قد لا أحس بوزنها الثقيل على عقلي الآن وأنا أتجول في باحات المسجد النبوي لأن الروح تغلب على العقل هنا بل قد يصبح الإنسان في خضم هذه النفحات الربانية روحا فقط متحررا من سلطة العقل المتعب بأسئلته المؤرقة والمعقدة والمركبة والمتشعبة واللامتناهية…

1xbet casino siteleri bahis siteleri