دوران الزمان

دخل إلى مكتبي اليوم رجل أعرفه جيدا …
لم يتذكرني بطبيعة الحال … كانت آخر مرة تمعنت في ملامحه وهو يتفوه بتلك الكلمات الجارحة تعود إلى أربعة وعشرين سنة؛ كنت حينها في آخر سنة من الإبتدائي، مولوعا بمشاهدة ولعب كرة القدم وكان حلمي الأكبر الذي حرك وجداني خلال تلك المدة، هو اللعب للمنتخب الوطني والفوز بكأس العالم.
أظنها كانت الرغبة الميتافيزيقية الوجدانية لكل الأطفال الذكور الذين كانوا في سني. أتذكر أني كنت أرفع مزهرية أمام المرآة متخيلا نفسي أحمل الكأس وأنا أرتدي القميص الأخضر والأحمر.




كان حب الوطن مرتبطا عندي بتشجيع المنتخب الوطني ومشاهدة خطابات وجولات الحسن الثاني على كلمات المدح والثناء المنفلوطية الهستيرية التي أبدع الصحفي مصطفى العلوي في نظمها وإلقائها.
كنت حينها صغيرا وساذجا …
كنت أظن بأن الذين يقبلون يد الملك يدافعون بالفعل عن الوطن لأن العزف الكلامي للصحفي والعزف الموسيقي العسكري المرافق لعبارات المدح والثناء والتبجيل كان يبث في نفسي هذا الإحساس؛ حينها لم يكن أحد يستطيع أن يخبرك بأن هؤلاء هم أكبر من نهب هذا الوطن.
لم يكن الناس يتحدثون في السياسة، فإن فعلوا ونطق أحدهم برأي مخالف لما يروج في القنوات والجرائد الرسمية، إلا ورمقت الخوف قد اعترى قلوب جلسائه وبدت على وجوههم علامات الضيق والضجر … كانت للحيطان آذان وكانت قصص الإختطاف والإعتقال والتعذيب تبلذ الأذهان وتشل الألسن.
دخل الرجل إلى مكتبي …
نظرت إليه مطولا …

مقالات مرتبطة


راودت نفسي : هل من الممكن أن يجره الزمان إلي بعد كل هذه السنين… سألته عن إسمه كي أقطع الشك باليقين. نعم … إنه هو ! … مدرب أطفال إحدى الفرق الوطنية التي كنت أرغب في الانضمام لها.
بلغ الرجل من الكبر عتيا. تغير فيه كل شيء إلا نبرة صوته المرتفعة ونظرته الحادة. نظرت إليه محاولا أن أنسى كل ما فعله بأحلامي الوردية… أحلام استغنيت عنها منذ زمان بعيد.
وهو يحكي لي قصة مرضه، تذكرت حينما ألقى نحوي الكرة وهو يقول “هيا … أرني ما في جعبتك … أرني طريقة لعبك” … أو حينما كان ينتقد كل حركة أقوم بها وكيف فاجئني بكلامه الجارح : “اسمع يا ولدي، ليست لديك موهبة كرة القدم، انت طويل القامة … ربما تصلح لكرة السلة أو رياضة أخرى، ليس هناك أمل بأن تصبح مهاجما… مكانك ليس هنا”




أتذكر أني فقدت حينها الثقة في أن أكون لاعبا جيدا… لم أكن أجيد اللعب بالكرة… لكن كانت لدي رغبة في تطوير مهاراتي، هذه الرغبة التي كنت أستمدها من عاطفة قوية تجاه هذه اللعبة التي ارتبطت في سنوات الطفولة بمعاني البطولة والوطنية، كنت أسمع الكبار يتحدثون عن مباريات المنتخب وكأنها معارك مصيرية ستحدد معالم المستقبل ثم كانت هذه اللعبة الشيء الوحيد التي يثبت بها الطفل ذاته بين أصدقائه.
انتهى من سرد حكاية مرضه. ثم قالت لي زوجته : هل هناك أمل بالشفاء من هذا الداء ؟
نظرت إليه وقلت له : هل أنت هو المدرب فلان في نادي كذا. تغيرت ملامحه وقال باستغراب بنبرة منخفضة هذه المرة : نعم، كيف عرفت ذلك؟ أجبته بأني كنت أرافق أخي إلى النادي. ثم سألته : عندما ترى طفلا صغيرا لا يتقن لعب كرة القدم، فهل هناك أمل في أن يصبح بطلا كبيرا ويلعب مهاجما مع المنتخب الوطني المغربي.
قال لي : بطبيعة الحال، دوري أن أحول هؤلاء الأطفال إلى أبطال. الأمل كل الأمل في أن يصبحوا كذلك.
قلت له : نفس الشيء يتعلق بهذا المرض. طالما سنقوم بكل الأسباب لمعالجته وهو في مراحله الأولى فهناك أمل كبير في الشفاء، تماما مثل ذلك الطفل الذي يلعب بصعوبة لكونه مبتدئا … هناك أمل كبير بأن يصبح بطلا. وهذا دوري كذلك. яндекс
ابتهج وجهه وعلت محياه ابتسامة عميقة ثم قال : إن شاء الله
وقبل أن ينصرف استوقفته : ماذا لو كان ذلك الطفل طويل القامة مثلي، هل يمكنه أن يصبح بطلا ؟
ضحك الرجل وقال : نعم يستطيع، فهناك مهاجمون طوال القامة وهم أبطال عالميون. أتريد أن تكون بطلا في كرة القدم ؟ قالها وهو يضحك ناسيا أو متناسيا مرضه.
من المؤكد أنه نسي ما قاله لي منذ أزيد من عقدين من الزمن …
أكيد أنه لم يفهم المغزى من سؤالي …
قلت له : نعم كنت أريد أن أكون كذلك في يوم من الأيام مثل باقي الأطفال …
أضفت مازحا : وكنت سأفرح لو كنت مدربي.
رافقته إلى الباب.
تصافحنا.



1xbet casino siteleri bahis siteleri