ذكريات أرض!

خمس سنوات تفصلني عن آخر مرة كنت فيها في البادية، أرضي ومسقط رأسي الأصلي، أرض ليست كمثل باقي الأراضي، أرض عشت فيها أجمل لحظاتي وأبهاها .كنت صغيرة وكان النوم لا يجد طريقه إلى عيني ليلة السفر، لأستيقظ مع صلاة الفجر بعدما غفوت بضع ساعات متأهبة نشطة وسعيدةً، نقصد المحطة حيث أشق وأفراد أسرتي طريقنا بين أكوام البشر المتناثر في أرجاء المحطة كحُطام أشجار دمرها سيل عرم، نسرع الخُطى حتى نقف أمام حافلة مهترئة تهتز كلها ِبرَنّات محركها الصاخب كعاصفة هوجاء، فنصعد إليها ورائحة البنزين الخانقة تكتم أنفاسي التي ضاقت مسبقا بالألم والرطوبة، أتفقد ملامح المتواجدين فبدت لي كلها منهكة ومدمرة بشيء خفي من الداخل؛ الكل متربع على كرسيه بخمول ظاهر، الصمت مطبق في المكان لا يكسره إلا هدير الحافلة المهترئ، فتتحرك بِنَا الحافلة كعجوز تتعثر في طريقها بعُكاس يابس.

ما إن تحط بِنَا الحافلة إلى وجهتنا حتى تجدني أشق الصفوف الأولى للتحرر من هذه الحافلة التي لم أُطقها طيلة الرحلة، ما إن أحط قدمي على هذه الأرض حتى تغمرني الرعشة والسعادة، وأستنشق هواءها الذي يمدني بالطمأنينة والسكينة، لأسرع الخطى بعدها وأنا متشوقة إلى بلوغ بيت جدتي في قمة الجبل، كان عبارة عن بيت من طابق واحد، بدوي الهيئة إذ كان كله مبني بطين تلك الأرض الباسقة، بنوافذ متسعة، وباب مفتوح على الدوام كأنه متأهب لاستقبال الأقارب والأحباب بل حتى عابري السبيل في أي وقت وحين، بسيطا على عكس بيوت المدن التي هي أقرب إلى المكعبات الإسمنتية منه إلى البيوت.

كان منزل جدتي على صغره يتسع للجميع صِغَارًا وكبارا، بيت جدتي حيث تختلط رائحة الأغنام والبعير برائحة الطعام الأصيل، حيث الزحمة المحببة إلى النفس لثلاث أخوات وثمانية إخوة وجيش صغير من الأحفاد الأشقياء. كانت طلباتهم أوامر لا جدال فيها.
في بيت جدتي، كان لنا نحن الأحفاد دلال من نوع خاص، دلال الجدة نحو أحفادها، إذ كانت جدتي حنونة معطائة، لا تبخل علينا بالقبل والدعوات، كنت ألحظ بجدتي سنة بعد سنة تلك التجاعيد التي تزداد شيئا فشيئا، تلك التجاعيد التي وقعت بها الأيام على جبهتها بينما تصارع الحياة فصارت موردة مدهوسة ببقايا عطر عتيق.

أذكر جيدا كيف كانت جدتي ملجئا لكل لاجئ، وأذكر كذلك كيف كان هذا البيت منبعا للسعادة والهناء. كانت أنشطتي في البادية تدور ما بين البعد مع بنات وأبناء الأعمام تحت شجرة “الخروب” وزيارة الأحباب والأقارب واستكشاف الطبيعة، تسلق الجبل، ملاعبة الأغنام، السقي والتسوق يوم السوق…وبالرغم من أنشطتي المتعددة إلا أن الأيام كانت تمر بسرعة الضوء، إذ ما ألبث اعتاد على الأجواء هناك حتى يرن جرس العودة مع اقتراب افتتاح المدارس لأدرك أنه قد حل موعد رجوعنا إلى المدينة بهذه السرعة، هنا أدرك أن بالزمن فعلا جزيئات السرعة التي لا تعيش إلا تحت استفزاز اللحظات الجميلة، وجدتني أخيرا في طبور أولئك الذين لا تسعهم أيقونة الدهر في الأوقات التي يجدون فيها شيئا من ذواتهم التي فقدوها ذات مسير في صحراء الحياة ومسرحها الكبير.

مقالات مرتبطة

شيء عادٍي جدا أن تنتابني نوبة تحسر كبيرة، ورغبة في البكاء السري، كيف لا وانا أغادر مساحة الحرية لأعود أدراجي إلى سجن الهلاك والروتين. أحسست في هذه اللحظة بشعور العصفور الذي ينفلت من قضبان قفصه فجأة ليذوق حلاوة الفضاء الفسيح، ليعاشرها شموخ الشجر وحضنها الدافئ، لينْظم إلى فرقة الأكسترا يغرد فنون ألحانه التي قمعها احقتان الأسر، ثم يقع ضحية فخ آخر يعيده إلى فصول اللاحرية والتقيد من جديد، لم يكن هناك مفر من العودة في كل مرة، فنبدأ في تسليم سلام الوداع على أمل اللقاء على أفراد العائلة هنا ولن أنسى قط توديع بقعة الأرض تلك التي لم ولن أَجِد لها مثيلا في مكان آخر.

لم أكن أريد لهذه الأرض أن تنقضي ولهذا البيت الجميل أن يختفي، أردته أن يظل دائما وأبدا حتى وإن غاب أصحابه، لكن هذا لم يحدث للأسف، فبعد أن غادت جدتي طريحة الفراش بسبب المرض الذي أنهكها وغادرت تلك البقعة من الأرض، اختفى البيت معنويا واختفت معه الأرض والأبناء، تفرق كل فمآله ولم يعودوا يجتمعون إلا نادراً.

البيت ما زال موجودا بالحقيقة ولكن الروح والحب اللذين كانا فيه اندثرا ولكن ما زالت ذاكرتي تحتفظ بالروائح والأصوات وكل التفاصيل الجميلة التي عشتها في هذا البيت الدافئ وفي هذه البقعة النائية.

في النهاية…أعترف أني تمنيت لو كان لي حق يمكنني من ميراث هذا البيت كله، لكني ورثت ما هو أهم وأبقى، ورثت عن جدتي حب الخير والعمل الصالح وورثت عنها الاستقامة والصبر والتفاؤل، فستبقى هي صاحبة الفضل العميم في حياتي.

1xbet casino siteleri bahis siteleri