نكتب وننسى أن الحبر لا ينسى!

تُحرك القلم بين يديها بتوتر، ويتصبب العرق من جبينها بغزارة. تبحث مُقْلتاها عن أي شيء في الغرفة يُلهمها فيما ستخطه بأناملها هذه المرة، كان كل ذلك عبثا. لا تدري ما الذي جرى لها هذه المرة، لطالما كانت مِحْبَرة أفكارها فيّاضَة تنسكب منها العبارات بسلاسة فائقة، تكتب عن التاريخ والفن والأدب والعلوم. أما الآن، اختلط وقتها بالماء فانسل وانصرف وهي لا تعرف بعد كيف ستتصرف! أليس هذا تصغيرا لما نمر به كل يوم؟

تظن نفسك قادرا على سياقة الأمور بحرفية مهما طالت الطريق واعوجت، ثم برمشة عين يرتفع سعر المحروقات بحيث لا يتوافق مع جيبك الفقير ثم تضطر للمشي غصبا عنك، فلا الحرفية ستغفر لك حينها ولا سنون الخبرة. لكن على أي حال يبقى المشي فكرة ليست بالسيئة، طالما أنه بحسب الأصول فذلك لن يمنع من الوصول، إذا لا حاجة لنا بالأضراس في عقد تحلها الأنامل!

لكن عندما يتعلق الأمر بالكتابة فإن الموازين تختل فتصبح النجوم أيسر تناولا منها، لِمَ؟ لأن الكتابة قوة، ثقافة، فكرة مخيفة، معضلة البشرية على مر العصور! بغض النظر عن طبيعتها، لغة أو رمزا أو مجرد كلمات. وبصرف الاهتمام عن الوسيلة، حبرا أو رصاصا أو دما، فالقوة تكمن في جوهر الكلمات؛ كل حرف منها يروي ظمأ العبارات الملقاة. ولكن مشكلتها أننا نكتب وننسى، ولكن الحبر لا ينسى!

منذ آلاف السنين كتب القدامى ثلة من المخطوطات، كتبوا على الجدران والقبور والأحجار. بل وتعود إحدى مخطوطات الفراعنة إلى 4000 سنة من القدم! وهذا دليل على أن هناك الكثير من الأفكار لمن يريد، ولكن تبقى الخطوة والأولى والجرأة على تخطيها هي التحدي، ولا نجاح في هذا التحدي إلا بالجواب عن جملة من الأسئلة. من سيقرأ؟ وكيف سيفهم؟ ما تأثير ذلك؟ هل أنا قادر على تحمل ما ستطبعه كلماتي في قلب أحدهم؟

الثورة التي ستحصدها الكلمات ليست بالضرورة ثورة شعب، قد تكون ثورة قلب، والقلوب خواطر! والكتابة لا تعني تخطيط كومة من الحروف المتلاصقة على ورقة اجتثت بعنف من شجرة، فما يلقيه الحكام في خطاباتهم هي كتابة على العقول وما يلفظه الشيوخ الأفاضل هي كتابة على الأرواح، ما يقوله أحدهم لمن يحب هي كتابة على القلوب، الغيبة والنميمة كتابة على الشرف، الأساليب تتعدد، الأهداف تختلف، التحليل والمناقشة والفهم، كلها تنضوي تحت لواء الكتابة، وهل ينتهي الطريق عند الوصول إلى العتبة؟ فما وراء العتبة جُرف، والجُرف أسرار!

و لله المثل الأعلى، إذ يقول عز وجل في سورة الكهف: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} ويقول عز وجل في سورة لقمان: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

ثم في نهاية المطاف، تأخذ وريقة مصنوعة من الرجاء، تكتب فيها دعوتك بدم الطلب والإلحاح، تطويها برفق وترسلها له، أو قد لا تفعل! ربما لأن قواك خائرة مُستنزفة، فتترك الكتابة وما خلفته من حرب عبر العصور، تجلس في ظلام دامس وتنطق بلسان مهترئ” يا رب، ” فقط هكذا، لا تخرجها من أي من مخارج الحروف بل من القلب، هاه ! لقد كتبتها بمضخة الحياة!!

1xbet casino siteleri bahis siteleri