من وحي الهجرة…

كانت الهجرة النبوية عنواناً مهماً في تاريخ المسلمين والإنسانية جمعاء.
كانت عنوان تشريف وعزة أمدَّ الله بها نبيه عليه السلام ومن معه من المؤمنين بعد سنينٍ من الابتلاء والتمحيص، كانت فيها قلوب المؤمنين تُصقَل بمِبْرَد المحنة والصبر.
إلى أن نزلت الآية الكريمة ” أُذِنَ للذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الذِينَ أُخْرِجُواْ مِنْ دِيَارِهِمْ بِغيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولواْ رَبُّنَا الله”.
كانت عنوان تشريفٍ وتكليفٍ بأعباء الرسالة النبوية الغراء، يُضاعَفُ فيها البذل والتضحية، كما يضاعف الأجْرُ والمثوبة.
سَنَّتْ بها الشريعة الإسلامية في شخص رسولها الكريم أُولَى الخطوات الكبرى للأخذ بالأسباب والسنن الكونية للنصر والتمكين، وفتح خلالها أول باب في جزيرة العرب نحو أفق حضاري لا عهد لها بمثله.
أمةٌ أتى عليها حين من الدهر لم تكن سوى حفْنة من القبائل المتناحرة طغت عليها روح العصبية والعُنجُهِيَّة العمياء، وعواصف الحروب الطاحنة التي لا تخلف وراءها سوى القتلى والأرامل والأيتام، ليكونوا بذلك شرارات لسلسلة حروب أخرى في حلقة مفرغة لا نهاية لها.
تظل مواقف الهجرة النبوية وأحداثها التفصيلية طافحة بالدروس والعبر، لمن شاء أن يمتَحَ من معينها.
خرجت أسراب المؤمنين رجالاً ونساء تترى تِباعاً تحت جنح الظلام مَثْنى وفُرادى تتوجس من بطْش العدو المترقِّب لترمي بنفسها في رمال الصحراء، خلفها المال والجاه والديار… لتنجوَ بإيمانها.
كانت البداية بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، لتستوي كفة العدل الإلهي بتشريف المهاجرين بالهجرة، وتشريف الأنصار بشرف النُّصْرَة.
كانت فرصةً سانحة للمؤمنين لتسجيل صفحات بيضاء في تاريخ دين الإسلام والرقي في ملكوت الإيمان، امتد أمدها بضع سنين حتى فتح مكة، حينها انتهت الفرصة “لا هجرة بعد الفتح!”.
تمضي الأحداث تباعاً وتجري السنين سراعاً، لم ينس فيها الرسول الكريم بذل الأنصار وإيمانهم وبذلهم المُهَج قبل المال والديار نصرةً لله ورسوله.
يوم انتصر عليه السلام في معركة هوازن عقِب فتح مكة، وقد استقوى بأهله وعشيرته، فأعطى الأعراب وأهل مكة أكثر مما أعطى الأنصار، وحرك ذلك في نفوسهم شيئاً.


فجمعهم في قصة طويلة قال فيها كلاماً مغموساً بالحب والرحمة والإخلاص والوفاء، تقشعر له الأبدان.
قال: يا معشر الأنصار، ما قالة (مقالة) بلغتني عنكم وموجِدة وجدتموها في نفوسكم؟ ألم آتكم ضُلَّالاً فهداكم الله، وعالةً فأغناكم الله، وأعداءً فألَّف بين قلوبكم؟ ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟، قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المَنُّ والفضل.
قال: أما والله لو شئتم لَقُلتُمْ فصَدَقْتُم ولصُدِّقتُم: أتيتنا مُكذَّباً فصدَّقناك، ومخذُولًا فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائِلاً (محتاجاً) فآسيناك.
وَجَدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لُعَاعة (شيء حقير) من الدنيا تألفتُ بها قوماً ليُسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟! أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعُوا برسول الله غلى رحالكم، فو الذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنتُ امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْباً (طريقاً) لسلكتُ شِعب الأنصار، يا معشر الأنصار، المَحيَا محياكم والممات مماتكم، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قَسماً وحظاً. (اهـ)
كان عليه السلام وهو يستقبل داعي ربه يقول: يا معشر المهاجرين، استوصوا بالأنصار خيراً، فإن الناس يزيدون والأنصار على هيئتها لا تزيد، وإنهم كانوا عَيْبَتِي (ملجأ) التي آويتُ إليها، فأحسنوا إلى محسنهم، وتجاوزا عن مسيئهم.
اليوم تمضي ألف وأربعمائة وأربعون سنة على ليلة صاحبي الغار.
وما يزال الصراع الأبدي بين الحق والباطل قائماً لا يتغير، وسنن الله في كونه سارية لا تتبدل، يجازى فيها المحسن في العاجل قبل الآجل، ويهلك فيها الظالم في الأولى قبل الآخرة.
عيون المؤمنين تذرف الدموع كلما استبد بها الحنين إلى تلك الليالي الخالية، تتمنى أن لو كان الله اصطفاها لتحظى بشرف الصحبة والانتماء. لكن… “كان ذلك في الكتاب مسطوراً”.
لكل منا سيئاته التي ينبغي أن يهاجر منها، وحسناته التي ينبغي أن يهاجر إليها،
على كل منا رقيب من آفاته وذنوبه، تتربص به وتلاحقه في بيداء الحياة، وله غار إيمان ودار هجرة يأوي إليها ابتغاء النجاة والمثوبة.
“بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره”

1xbet casino siteleri bahis siteleri