طموحات منتهية الصلاحية

من الصفات المحمودة في الإنسان أن يكون ذا طموح مستمر؛ بحيث لا يرسم هدفا نهائيا إذا وصل إليه توقف عنده كل شيء، ثم ارتطم في أحضان الكسل وعيش اليوم الواحد المكرر. والتوق إلى الأفضل دائما يعني أن يُعوّد المرء نفسه على فكرة “المؤقت”، وأن يتعامل مع طموحاته على أنها تتحدد بمسألة التوقيت والعمر. فإذا كان في مرحلة من المراحل تعلقت طموحاته بشيء معين متناسب مع تلك المرحلة، لكن ما أن يقطع تلك المرحلة حتى تلوح أمامه آفاق أوسع وطموحات أكبر. وهكذا يستطيع أن يتطور باستمرار من غير أن يقع ضحية الوهم الذي يُصيب الكثير من الناس؛ وهْمُ أنهم قد حققوا كل طموحاتهم، وأنهم قد “وصلوا إلى غاية الغايات”، وحان الوقتُ لكي يضعوا أسلحتهم ويركنوا إلى الخمول، ويستمتعوا بالحياة، وفقا للتصور الذي لديهم عن الحياة.
لكن، ألا يمكن أن تكون هذه الطموحات المتزايدة والمتناسلة بشكل غير مضبوط ومحدود مصدراً للإزعاج؟

في الواقع، الطموحات قد تكون قاتلة أحيانا، بل هي كذلك في كثير من الأحيان، خاصة حين لا تكون راشدة؛ فالأهم من أن يكون للمرء طموح هو أن يكون هذا الطموح راشداً، أي مدروسا ومتناسبا مع قدراته وحاجياته. فبعض الطموحات هي اعتداء على الذات، لأن المرء يحمِل نفسه على ما لا يطيق، وما ليس داخلا في إمكاناته وقدراته، فيعيش حياته وهو يعتب على نفسه أنه لم يقدر ولم يستطع أن يحقق شيئا كان ينوي تحقيقه؛ وهي كذلك فخاخٌ يمكن أن تدفع بالمرء إلى الإقدام على ما لا ينبغي له أن يفعل، بحيث يتوسل بكل شيء لتحقيق طموحه، حتى ما كان من ذلك ممنوعا قانونياً وأخلاقياً؛ وهي فخاخ أيضا من جهة أنها قد تشغلك عن عيش حياتك والاستمتاع بها وقضاء أكبر قدر منها مع أحبائك. بل إن هذه الطموحات إذا زادت عن حدها قد تَجعلك تحقر حياتك العادية التي هي شبيهة بحياة كل الناس العاديين، ولا ترقى إلى حياة أفذاذ الناس المتميزين الاستثنائيين.

نعم، الطموح قد يكون قاتلا حين يجعلك مهووسا بزيادة مردوديتك وإنتاجيتك، بدون قيد ولا معيار ينضبط به سلوكك وعملك، فتندفع إلى التفكير في كيفية استغلال كل ما تتيحه لك الإمكانيات المتوفرة من فرص لتحقيق المزيد من الإنجازات الممكنة. فيصبح تركيزك كله على “كيف”، وتنغمس في هذا الأمر، ويغيب عنك بالكلية “لماذا”. والكثير ممن يقع منهم مثلُ هذا ينتبهون متأخرين، ويكتشفون أن فعلَهم كان عاريا من غاية تستحق العناء، فيجدون أنفسهم فجأة تحت طائلة الضجر الذي كانوا يتهربون منه بالانهماك في العمل.

والحق أنني على المستوى الشخصي، أعاني من مشكل آخر مؤرق أيضا، وهو أنني لا أستشعر أهمية ما أقوم به مهما بدا للناس أنه عمل عظيم. وهذا له ارتباط عندي بمشكلة الطموح نفسها التي تحدثت عنها؛ فكثيرا ما أفكر أن الجهد الذي أبذله في عمل ما من الأفضل أن أوجّهه إلى عمل آخر، وستكون الثمرة أفضل. وهذا الأمر يتحول أحياناً إلى شيء يشبه الهوس، فما أن أبدأ كتابا وآخذ انطباعا عن موضوعه والاتجاه الذي يسير فيه المؤلف والفكرة الرئيسة التي يريد إثباتها حتى أفكر في الانتقال إلى كتاب آخر. وهذا يجعلني أستغني أحياناً بقراءة ملخص الكتاب عن قراءة الكتاب كاملا ! وذلك لأنك تستطيع أن تقرأ ملخصات لكتب كثيرة في وقت يسير، في حين أن قراءة كتاب واحد كاملا يأخذ وقتا موسعا ويحتاج نفَسا طويلا، لا يتوفر عادةً إلا للذين امتهنوا القراءة كالروائيين والكتّاب الأكاديميين، ويعسر هذا على الناس الذين لهم مهن مختلفة كالأطباء مثلا.

صحيح أن قراءة الملخص ليس في مستوى قراءة الكتاب كاملا، فالفكرة العامة للكتاب تُـبْنى على طول فصول وصفحات الكتاب، وقراءتها رأساً من دون المرور بمراحل بنائها قد لا يُعطي تصورا سليما للقارئ الذي يكتفي بالملخص. وهذا المشكل أتفاداه بتصنيف الكتب إلى مهمة وأقل أهمية، فالمستوى الأول يُحتاج إلى قراءته كاملا، في حين يمكن الاكتفاء بالملخص إذا تعلق الأمر بالمستوى الثاني. وعموما فالإحساس بأن استثمار الوقت في شيء آخر أفضل يلازمني دائما، يغالبني وأغالبه. وهو لا يزعجني إذا تعلق بالكتب فقط، لكنه حين يتسرب إلى علاقاتي الإنسانية يصبح مقلقا في الحقيقة، والإنسان لا يتجزأ، فطبيعي أن يغلب طبعه على كل شيء.

ففي علاقاتي بالناس، يمكنني القول أنني إنسان انطوائي إلى حد ما، وهذا الطابع يجعلني أنتقي الناس بعناية كبيرة، وأحرص على أن تكون علاقاتي بهؤلاء الذين أنتقيهم نافعة لي ـــ ولا أدري إن كنت أسأل نفسي: هل أنا نافع لهؤلاء أم لا؟ وواضح أن هذه مشكلتهم وليس مشكلتي ـــ . ولا أقصد بالنفع هنا النفع المادي، بل النفع العام الذي يتمثل في القيمة المضافة التي تحملها هذه العلاقات في حياتي. منشأ المشكلة في هذا القضية أن الناس لا تعرفهم إلا بمخالطتهم والتعامل معهم، وليس هناك ملخص ما يمكن الاستعانة به في اكتشافهم ومعرفة مدى صلاحهم ونفعهم لك في العاجل أو الآجل. فمن السهل أن تعرف عمل الشخص وبعض الإنجازات التي حققها، وما هي أولوياته وأهدافه التي يركز عليها، لكن يبقى كنه شخصيته وأصالة معدنه أمراً لن تكشفه إلا بطول المخالطة. وهذا يمثل مشكلة حين تحب أن تقصّر الآجال والــمُدَد، ولذلك ستضطر في الأخير إلى الاكتفاء بعدد أقل من الناس في حياتك، لأنك من جهة لا تحب العلاقات السطحية، ولأنك تدري جيدا أن الإنسان متقلب، ولا يؤمن شره في نهاية المطاف من جهة أخرى.

لكن وجود الناس في حياتنا أمر لا مفر منه، بل لا يمكن للمرء أن يحقق نجاحات معتبرة إلا بالاستعانة بالآخرين وخبراتهم وتوجيهاتهم، فلا أحد يبدأ من الصفر، ولا أن يدعي الاستغناء عن الناس في مسار حياته، إلا إذا قرر منذ البداية أن يكون فاشلا ممتازا. فنجاحاتنا في الحياة تظهر أساسا في حسن إدارة علاقاتنا بالآخرين، وليس بالاستغناء عن هذه العلاقات. والحكمة تكمن في الحفاظ على هذه العلاقات، مع إبقاء مسافات الأمان اللازمة، والاستفادة من التجارب السيئة السابقة. وهكذا تصير المعادلة: عدد كثير من العلاقات + وعدد قليل من الأصدقاء.

والحق أن طبيعة الحياة نفسها تأبى إلا أن تكون الأمور على هذه الشاكلة. فالذي له عشرات الأصدقاء لا يمكنه أن يزعم أن هؤلاء أصدقاء له حقا، إلا إن تجوّزنا في مفهوم الصداقة. وفي المقابل، فالمعارف يزدادون كل يوم، وقل أن يمضي يوم دون أن يتعرف المرء إلى شخص جديد، بسبب من الأسباب. وبديهي أن المعارف لا تغني عن الأصدقاء، وما أصدق مقولة الأديب المصري أحمد خالد توفيق: “أنا كثير المعارف قليل الأصدقاء؛ حقيقة أحياناً أجد أنني وحيد جداً، وأبحث عن أي بواب بناية أتبادل معه الحديث”. فهذا تعبير عن حالة عامة يمر منها معظم الناس، حين يجد المرء نفسها في جماعة، يحيط به الناس من كل جانب، لكنه يشعر بالوحدة، لأن الشخص الذي يحتاج إليه غير موجود، صديقاً كان أو حبيبا.

وبعد الاستطراد القصير، أعود لأتساءل: لماذا نفضل استثمار الوقت في قراءة هذا الكتاب بالضبط من غير الكتب الأخرى؟ أو الشروع في علاقة مع شخص بعينه دون آخرين؟ أو التفرغ والتخصص في دراسة مجال معين دون غيره من المجالات الأخرى؟
هل ما نقوم به هو اختيار واع نتيجة تخطيط محكم، أم هو انجراف وراء رغبات غير واعية؟ أم الأمر كله مقادير مسبقة والمرء فيها لا يملك أمر نفسه؟

من الواضح أنني لا أملك إجابات قاطعة عن هذه الأسئلة، فلطالما كانت محل أنظار الحكماء والعلماء، فهي أسئلة تندرج ضمن ما يعرف بقضية التسيير والتخيير أو الجبر والاختيار في الفكر الفلسفي والعقدي. ولا أنوي في هذا المقال مناقشة القضية فلسفيا وعقديا، فهذا الأمر له أهله والمتخصصون فيه. ولكن سأناقشها من زاوية ملاحظة السلوك الإنساني اليومي وكيفية نشأة العادات السلوكية اليومية عنده.

قد ثبت بالملاحظة أننا لا نهدف من كل ما نقوم به إلى تحقيق غايات محددة، بل كما قلت آنفا: في كثير من الأحيان نغفل عن الغاية من الفعل: “لماذا”. فأغلب ما نقوم به لا نبذل فيه جهدا أو تفكيرا، وإنما نقوم به تلقائيا. يقول الكاتب الأمريكى “تشارلز دويج” في كتابه “قوة العادات”: إن الدراسات بينت بأن حوالي 40% من الأعمال التي نقوم بها يومياً هي عادات، وبهذا فنحن نمضى تقريباً نصف حياتنا كآلات تكرر ما تقوم به بدون أدنى تفكير”. وهذا ناتج عن التفكير الباطني الرشيد لدى الإنسان، فحين يكرر المرء فعلا ما لمرات عديدة يتحول عنده إلى عادة لا تحتاج التفكير واتخاذ القرار، وبذلك يقتصد الإنسان في طاقته. فالعادات من هذا الوجه لها أهمية بالغة في حياة الإنسان. ومن هنا أهمية بناء عادات إيجابية، طالما أن العادات لا مفر منها.

مقالات مرتبطة

ويعتبر كتاب قوة العادات لتشالز دويج من أهم الكتب التي تناولت أهمية العادات في حياة الناس، بالإضافة إلى كتاب “خارق بالعادات” لمؤلفه تينان. فالأشخاص الاستثنائيون هم أناس نجحوا في التخلص من العادات السيئة، واكتسبوا عوضا عن ذلك عادات إيجابية.

والعادة هي تكرار يومي متعمد لفعل واع حتى يصير عادة لا يحتاج إلى جهد وتفكير. ومن أسف، فالخطابات العربية حول العادات دائما تركز على التخلص من العادات السيئة، دون بيان ضرورة بناء عادات مقابلة إيجابية. والتخلص من العادات السيئة وحده لا يثمر شيئا، وإن كان يقلل الأضرار؛ فالشخص الذي يقوم بتعطيل حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي بدعوى أنها تستنزف وقته وتجعل مردوديته أقل، لن يجني أي ثمرة من ذلك إذا لم يعوّد نفسه على عادات أخرى إيجابية يٌنفق فيها الوقت الذي كان يستنزفه على مواقع التواصل الاجتماعي. فالأمر إذن لا يكتمل إلا بوجهيه: التخلص من العادة السيئة واكتساب عادات جديدة إيجابية. أو بعبارة أهل التصوف: تخلية وتحلية.

ويبين تشارلز في الكتاب المذكور أن عملية تكوين عادة جديدة تمر بالضرورة من ثلاث مراحل:
مرحلة الإشارة، وهو ما تحدثت عنه في بداية هذا المقال، وأعني ذلك المحفز الأول الذي يدفعك للقيام الواعي بالشيء؛ ثم مرحلة الروتين، وهو تكرار هذا الفعل مرات ومرات، حتى يترسخ تدريجياً في اللاوعي؛ ثم مرحلة المكافأة وهو ما نحصل عليه من أجرة مادية أو جزاء معنوي بعد القيام بهذه العادة. وأهمية هذه المكافأة ــ كيفما كانت طبيعتها ــ أنها تساعد الدماغ على معرفة ما إذا كان هذا الروتين يستحق المحافظة عليه أم لا. وهذا الكلام من الدقة بمكان، فلا يمكن أن نتصور “عادة” تتكون وتستقر من غير المرور من هذه المراحل. فنحن نقوم بالشيء في الأول بعد تفكير وتقدير وجهد، ثم نلزم أنفسنا بتكراره بعد ذلك، ثم نحصل على النتيجة التي نريد فنشعر بالرضى، ونحافظ على تكرار الفعل، أو لا نحصل عليها فنشعر بالإحباط ونتوقف عن تكرار ذلك الفعل.
ومربط الفرس هنا في “المكافأة” التي نحصل عليها من فعل معين، فهناك أناس قنوعون، يكتفون بالحد الأدنى من المكافأة الممكنة من فعل ما. ولذلك هم يثابرون ويستمرون في الغالب على ذلك الفعل، ويحققون نجاحات باهرة على المدى البعيد؛ وفي مقابل هؤلاء، هناك فئة لا ترضى إلا بتحصيل الحد الأعلى من المكافأة من المحاولات الأولى، وغالبا ما يكون هؤلاء من الأشخاص الذين يتمتعون بمستويات عليا من الذكاء، فلا يصبرون على التكرار دون ثمرة ظاهرة، ومكافأة عالية. وهؤلاء غالبا يتوقفون على تكرار ذلك الفعل، ومع الوقت قد يصنفون ضمن الفاشلين في شيء ما، لهذا السبب: افتقاد الصبر وطول النفس، واستعجال النتائج.

وترشيد الطموح يقتضي أن يرتب الإنسان أولوياته، ودرجات المكافأة التي يريد الحصول عليها. فأنا مثلا طبيب جراح في المقام الأول، ولكن في مقابل ذلك أحب الكتابة والتدوين. وهذا يقتضي مني أن أرتب درجات المكافأة التي أسعى لتحقيقها وأنا أحاول بناء واكتساب عادات جديدة في هذين المجالين. ففكرة الجمع بين التميز في المجالين معا فكرة مغرية، ولا يمكنني أن أخفي أنها تستهويني، لكنها صعبة التحقيق؛ لأن كل مجال يقتضي منك أن تتفرغ له بشكل كبير إن لم أقل بشكل كامل. ونظرا للتعقيد الذي تتميز به حياتنا، مع الأخذ بعين الاعتبار كثرة المسؤوليات الاجتماعية، فالنجاح بشكل باهر في الأمرين معا يصبح في غاية الصعوبة. ولا بد من الترجيح واختيار المجال الذي سيُوجه القدر الأكبر من الانضباط في العمل الذي يصبح روتينا وعادة فيما بعد.
غير أنه ينبغي أن أعترف أن الوعي بصعوبة هذا الأمر لا يعني التوقف عن المحاولة، أو الكف عن هذا الطموح. وقد بحثت عن سبب هذا التعطش الدائم إلى خوض غمار مشاريع جديدة وتعلم أشياء جديدة والسفر المتكرر إلى أماكن بعيدة، وعثرت على بعض الإجابات، لكنها تظل غير مقنعة تماما بالنسبة لي. من ذلك مثلا أن الأشخاص الانطوائيين أو الذين مروا بصدمات عاطفية أو أزمات نفسية في الماضي تكون لوزاتهم العصبية عالية الحساسية للتهديدات المحيطة بهم؛ لأن عقلهم يعمل باستمرار على تفادي تكرار تلك التجارب، ممَّا يُجهده في التفكير والملاحقة حتى لا يفوته شيء في محيطهم. وهذا التعليل قد يُقبل إلى حد ما في حالات بعينها، لكنه يصعب تعميمه على كل الحالات.

ومن الطبيعي أن كونك منتبها طوال الوقت هو مناقض لأن تنعم بالسكينة والهدوء الذي يحصل مع العادات والروتين. والانتباه المفرط يُفسد على المرء تذوق الحياة وعيش بساطتها. والحياة كما لا يخفى تحلو ببساطتها، وليس بالإضافات والتعقيدات وبالتفكير المزمن في كل صغيرة وكبيرة فيها. والتفكير المزمن إذا انضاف إلى الطموح المتطرف والمبالغ فيه تتعقد الحالة أكثر، وقد يصير الأمر في بعض الأحيان إلى حالة مرضية يجب معالجتها. وقد عبر آل باتشينو عن مثل هذا حين قال: “كل هذه الأحاسيس تنتابني، القلق والخوف، وفي بعض الأحيان الحزن لأني لم أتمكن من أن أكون في مكان معين كان بإمكاني السفر إليه؛ أو لأني لم أتمكن من فعل شيء محدد كان بإمكاني القيام به. أو عدم الرضا لأني أجهل مجالًا ما بإمكاني الإلمام به. أحاسيس سيئة جداً لكنها مفيدة تدفع إلى العمل والجد والكد وتحقيق الكثير من الإنجازات”. ففي هذا الكلام تعبير دقيق عن التحير الذي يصيب الأشخاص الطموحين، وإن كان آل باتشيو فسره في الأخير تفسيرا إيجابيا، وهو كونه يدفع إلى الجد والعمل. وملاحظتي على هذا التعليل أنه يجعل العمل والجد والكد ـ أي في العمل ــ غايات في حد ذاتها، وهذا أمر يحتاج إلى وقفة ونظر؛ إذ العمل ليس غاية في حد ذاته، ولا الجد والكد في الحياة كذلك.

هذه جملة أفكارٍ، حاولتُ تقييدها في يوم من أيام الحجر الصحي التي جعلتني أعيد التفكير في الكثير من الأمور، خصوصا مع صدمة الأيام الأولى حين وجدنا أنفسنا أمام حالة مفاجئة، ومخاطر محتملة لم تخطر على بالنا ونحن نستقبل السنة الجديدة بطموحات كبيرة جدا، معتقدين أن هذا العقد الجديد من هذه الألفية سيكون فاتحة لمشاريع وطموحات ظلت حبيسة الأفكار في أعوام سابقة. لكن بعد مرور شهرين ونصف نجد أنفسنا لا نستطيع الخروج من منازلنا، بل لا نجد داعيا لفعل ذلك، فضلا عن كونه ممنوعا قانونا.

فهل يكون الطموح الزائد عن اللزوم اليوم نافعا؟ وفيمَ تنفع الإنجازات حين يغيب الاطمئنان والسكينة ويسود التوجس والترقب والريبة؟

أعود إلى القول: إن الطموح المنفلت قد يُفقدك الاطمئنان أيضا، فيأخذك من ذاتك. فتحترق وتتهمم لبلوغ أهداف ليس في الوسع بلوغها بالراحة والاطمئنان والركون إلى منطقة الراحة ـــ comfort zone أو منطقة الأمان ــ safety zone. لكن لا بد مما لا بد، فبلوغ معالي الأمور له تكلفته، ولا ينال بالمنى والأحلام. السعي في بلوغ الأهداف المتوخاة قد يجعل المرء لا يهنأ له بال ولا يقر له قرار أو يلذ له طعام أو نوم حتى ينجح في تحقيقها. وكل يختار لنفسه ما يليق بها من الراحة أو الكد والجد والعمل

﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: 84].

وختاما، يمكن القول، بعد رحلة من العمر ليست بالقصيرة، وبعد الدروس التي تعلمناها من جائحة كورونا: إنني قد تعلمتُ أخيرا أن الأهم هو أن نتعلم فن الحياة، أي كيف نعيش هذه الحياة، مهما كانت إنجازاتنا فيها، ومهما كانت نسبة مردودية إنتاجيتنا. فهذه الأخيرة قد يحقق بها المرء ذاته وسط المجتمع، وقد تعطيه وجاهة بين قومه وجماعته، ولكنها لا تلامس جوهر الحياة وطبيعتها البسيطة والمملة والمؤلمة. بل إن الهوس بالإنتاجية لا يمنع من الملل والضجر، بل يؤدي في آخر المطاف إلى المزيد من الضجر والملل والألم، بعد اكتشاف أن ذلك كله لا يحقق شيئا من سعادتنا البشرية البسيطة. ورغم أنني لا أحب الفلسفات التشاؤمية، إلا أنني لا يمكن أن أتجاهل هنا وأنا أتحدث عن الضجر والملل مقولتي شوبنهاور المشهورتين، يقول في الأولى: “الإنسانية قد حُكم عليها بشكلٍ واضح أنْ تتأرجَح إلى الأبد بين طرفين؛ أحدهُما الألم، وثانِيهِما الملل”. ويقول في الثانية: “الملل من شيء هو الجانب العكسي للانبهار من نفس الشيء، وغالباً أحدهما يؤدي للآخر”.

وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: 4].

1xbet casino siteleri bahis siteleri