عبادة الأنفاس

كلُّ الأمم على مرّ الزمان لها اهتمام كبير بالوقت، وكلّ إنسان مطالب باغتنام الوقت فيما ينفع كي لا يذهب عمره فرطا. والإسلام يعطي أهمية خاصة للوقت بحيث يعدُّه رأس مال الإنسان، والوقت له قيمة في الحياة، كما أسّس له بعض العلماء علمًا سمي بواجب الوقت أو ضبط الأنفاس؛ وذلك لاقتران حياة الإنسان بين زفرة وشهقة. كيف له أن يضبطها بألّا تضيع إلا في علم ومعرفة ومقربة ومدرجة إلى الله؟

الوقت ليس مجرّد شيءٍ صمٍّ يسير ويمضي، بل هو عمر الإنسان، لأن كل لحظة تمضي تنقص من عمرك تكون مسؤولا عنها -عمرك فيما أفنيته-. لذلك يجب أن تحرص على الوقت لتوظفه في بناء الشخصية المتكاملة على المستوى الإيماني والروحي والعقلي والفكري والقلبي.

يقول الإمام الجنيد مسميا الوقت بـ “عبادة الأنفاس”، أي هذا النَّفَس الذي تملكه تحاول أن يكون في حضرة الله وفي ذكر وعمل خالص لله، وبأن كل وقت له واجب، فإن أقامك في مقام فقر أو غنى أو مرض أو ابتلاء أو فقد، فواجب كل وقت أولا التسليم بقضاء الله ثم القيام بواجب المقام كما في الحديث النبوي الشريف: «عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ.»

واعلم أن كل ما في هذه الحياة هو لله، وأنَّ هذه النفس التي بيننا إن لم نشغلها بالطّاعة شغلتنا بالمعصية، لهذا وجد علم السّلوك إلى الله أو ما يُسمَّى -علم التربية- كي يضبط لنا أعمالنا وحركاتنا وسكناتنا لتكون في معناها ومكانها الحقيقي. لأنّ السّلوك هو الوصول إلى حالة تعاد فيها الأمور إلى حجمها الطبيعي، والسَّير إلى الله يوصل إلى أن تنفجر الطاقات البشرية كلها في إطارها الصحيح؛ طاقة العمل، وطاقة الروح، وطاقة الجسم، وطاقة القلب والنفس في حياتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وفي دائرة الأسرة، والحي، والقطر والأمة والإنسانية جميعا، {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

هذه حقيقة الانتقال من زمن العادة إلى زمن العبادة، وهي النقلة من الحياة كطقوس إلى معناها الحقيقي أي العبودية لله. وأوّلها الانتقال بالصَّلاة من أرِحنا منها إلى أرِحنا بها، كما قال الصّادق المصدوق ﷺ: «لا يُؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئتُ به.»

يقول أحد الصّالحين: “أوقات العبد أربعة لا خامس لها: النعمة، والبلية، والطّاعة، والمعصية، ولله عليك في كل وقت منها سهم من العبودية يقتضيه الحق منك بحكم الربوبية؛ فمن كان وقته الطّاعة فسبيله شهود المنَّة من الله عليه أن هداه لها ووفقه للقيام بها، ومن كان وقته النِعمة فسبيله الشُّكر، ومن كان وقته المعصية فسبيله التوبة والاستغفار، ومن كان وقته البلية فسبيله الرضا والصبر.”

وقيل أيضا: “من أمضى يومًا من عمره في غير حقٍّ قَضاه، أو فَرضٍ أدَّاه، أو مجدٍ أثَّلَه، أو حمدٍ حصَّلَه، أو خيرٍ أسَّسَه، أو علم اقتبسَه فقد عقَّ يومه وظلم نفسَه.” لذا يجب أن تكون شحيحا بالوقت أن تصرفه إلا في زيادة من معرفة وعلم وقرب، ولو بالقليل، لأن الله يحب من الأعمال أدومها وإن قلّت.

إذا كان متوسط عمر الإنسان 60 سنة وقسّمناها على 8 ساعات نوم أي 20 سنة “الثلث”. و8 ساعات أكل وشرب وما إلى ذلك من ملهيات الحياة يعني 20 سنة كلها في ذلك “الثلث”. فكم تبقى من العمر الذي تبني فيه نفسك وما تُحَصِّله من علم ومعرفة وعبادة التي هي رأس الأمر كلّه. فإذا لم يُحَصِّل الإنسان حتى الثلث الأخير ربما يموت وهو طفل في عمر الشيخوخة. لذلك، يجب أن تسعى جاهدا كي تترك أثرا في رفوف مكتبة الدنيا بعمل صالح ونافع لك ولغيرك، لا أن يتصرّم عمرك هباءً…وكن مع الله بأنفاسك يكن معك بألطافه في أقداره، فينتشلك من مَدافِنِ الشّقاء إلى منازِلِ أهل الصّفاء.

1xbet casino siteleri bahis siteleri