سيِّدة المزاج

1٬664

لم يكن يخطر على بال ذلك الراعي -كالدي- الذي اكتشف نبتة البن التي تسببت في أرق أغنامه، فوجدهم قد أدمنوا على أكلها، والتي ستصبح لاحقا مشروبا استحوذ على العقول والقلوب سمي بالقهوة، تغري العشاق بسوادها الغامض الساحر، وصارت لها أسماء وألقاب مثل خمرة الصالحين، وعذراء الصباح الصامت.

القهوة اسم من أسماء الخمر كما جاء عند ابن منظور في لسان العرب: القهوة هي الخمر، وسميت بذلك لأنها تقهي شاربها عن الطعام، أي تذهب عنه شهوة الأكل. وتُعدُّ إثيوبيا هي الموطن الأصلي لنبتة البُنّ، ثم جلبت حبوبها عبر القوافل التجارية لتزرع في اليمن، فتعرف بعد ذلك انتشارا عربيا وعالميا، إلا أن انتشارها لم يمر بسلام بحيث وقع جدال واختلاف بين العلماء حول حِلِّها وحرمتها، فافترق بعض العلماء ما بين مؤيِّد للقهوة بأنها تنشط العقل وبين مُعارض لها بدعوى أنها مجلبة للفساد والسّكر، حتَّى أن بعضهم أطلق عليها “قهوة الفساق” لأنها وإن كانت تبدو لهم غير محرّمة، لكن حرمتها في الأجواء المحيطة بها من ليال المراقص والميوعة والاختلاط التي كانت آنذاك. حتى أن حرمتها وصلت لأوربا من قبل الكنيسة كذلك.

ويُروى بأن القهوة في أوائل ظهورها في اليمن كانت مقتصرة في بعض المجالس الصوفية، إلى أن انتشرت في بلاد فارس وتركيا وشمال إفريقيا حتى عمّت أنحاء العالم. إلّا أنّ المتصوفة الشَّاذلية لهم دور كبير في انتشار القهوة؛ حيث كان الإمام أبو الحسن الشاذلي يشربها كثيرا لتعينه على السّهر ليلا تفرغا للعبادة، ويوصي بشربها لما وجد فيها من تجفيف للدماغ واجتلاب للسهر وتنشيط للعبادة حتى أصبحت قوته وشرابه اليومي، وعليه سميت القهوة في تونس والجزائر بالشِّاذلية. وعُرفت عند المتصوفة عامة بخمرة الصالحين.

بعدها انتشرت القهوة شعبيا لتستهوي العامة والخاصة وأصبحت لها بيوتا وأماكن مخصّصة لشربها، عرفت بالمقاهي وأُعِدَّت لها صوالين الثقافة والأدب، وكانت شراب النخبة في الدولة العثمانية بحيث كانت تقدم كشراب بروتوكولي أساسي، وكان عندهم فريق خاص لطهي القهوة سمي: “القهوج باشي”

للقهوة سرّ عجيب بينها وبين محبيها، فمن شدة الألفة بينهم أقاموا لها طقوسا وأوقاتا خاصا لارتشافها تعبيرا عن العلاقة المتينة، فهذه دلال البدو التي لا تبرد تتجهز على عجل فُتشرب على مهل، فهي عندهم أخت الوقت، ولا يحلو المساء إلا بفنجان قهوة على أوتار العود، وحتّى العُشّاق لا يحلو لهم الاعتراف بما يختلج مشاعرهم من البوح بالحبّ إلّا على فنجان قهوة، فهي عندهم حيلة لمقصد اللقاء.

ومن آداب شرب القهوة استنشاق رائحتها و ركها تداعب خلايا رأسك فتشرب الهوينا رشفات، واعلم بأنّها كالحبّ قليل منها لا يروي وكثير منها لا يشبع. يبدأ الاستمتاع بمذاق القهوة بدءًا من إعدادها لا من ارتشافها، لذلك يُفَضِّلُ الكثير إعدادها بنفسه، فيوقد تحتها النّار ثم يتبع حركتها وذوبانها حتى يحدث نشيشها صوتا موسيقيا، فتنثر رائحتها لينتشي العقل طربا، فتسري في الروح مزهرة ويعم الهدوء كبرقية حبّ.

وقد تغزّل بها الكُتّاب و الأدباء و الشّعراء، بأعذب الكلام قائلين: بأن القبض على البن يذهب الحزن
وكذلك:

فارشف البن ولا تبالي *** إن البن من شيم الرجال
وكذلك: أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ
صُبَّ لنَا وطناً فِي الكُؤُوسْ
يُدِيرُ الرُّؤُوسْ
وزِدْنَا مِنَ الشَّاذِلِيَّةِ حتَّى تَفِيءَ السَّحَابَةْ
أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ
واسْفَحْ علَى قِلَلِ القَومِ قَهْوتَكَ المُرَّةَ
المُسْتَطَابَةْ

حتَّى وإن لم يُقم لها كل هذا التكريم، فحروفها تكفيها في وصف جمالها، فهذه القاف قوة والهاء هدوء والواو وقت والتَّاء للتَّأنيث، لأن كلّ شيء لا يؤنَّثُ غير مُعوَّلٍ عليهِ… كلُّ هذه الأحداث تجعلنا نحتفي بكل كوب يقع بأيدينا، لأنّها ليست قهوة فحسب بل هي كمية من الحُبّ والمواساة والتاريخ المجيد، الحب في قانون العرب قهوة.