مقيم مرتحل!
وجدتني أتهادى بين الدروب غير هيّاب ولا وجِل من زوابع الخطوب ولواذع الكروب، أسائل الضمير بلهجة المُتهدِّم الملتاع عن سر الوجود.. وكيف الوصول إلى مقام -الهَناءة-. مشيت على بساط الأرض محمولا على أكتاف الحيرة، لا أملك دقات قلبي ولا اضطراب نفسي، مُكبّل في محابس الأفكار والظنون، أتطلع إلى هلال المعنى علّ نوره يسطع من وراء الأفق البهيم مخبرا عن السّر.
لم أتفطّن إلا وأنا أمام مهابة البحر الهدّار في جو يطغى عليه الهجود والجمود، لا أكاد أسمع هسيسا لبشر سوى هدير موج يشقّ هدأة الصمت. جلست متوسلا العزلة والسّكون، أرقب صفحة الكون الفسيح في غمرة اتفاق الهوى مع امتزاج الشعور، أبصر الوجود محاولا اجتلاء ما وراء هذه اللوحة الإلهية البديعة، ربما يلمع لي ما هو مخبوء وراء غِلالة الوجود من بُنيَّات المعنى.
في غمضة هذا الهيمان تراءى لي من بعيد طيف رجل طاعن في السن، متوكئا على عكازه، يقترب مني باتّئاد ورصانة، على وجهه إشراقة نور صافية، تبعث السرور والطمأنينة، بقيت أرقب خطواته الرزينة حتى صرنا وِجاهاً. أومأ برأسه مُسلّّماً، ثم سألني بصوت رخيم: ما بك يا فتى أراك ساهما؟
أشحت بنظري للأرض مخفيا تباريح لوعتي، لكن الرجل كرر سؤاله ثانيا بنبرة المستظرف المتيقن: لا تُخفِ حزنك.. فعلى الوجه يدلُّ الآثر… أجبته بلسان متلعثم: كيف أشرح لك يا رجل.. أعياني الضياع والتيه، وكلّت قواي فصرت حيّا وميّتا، لا أدري ما بي.. أهي سوانح أحزان، أم كآبة فناء، أم ظلال موت… أبحث عن الهناءة فكيف السبيل إليها..؟
ربّت الرجل على كتفي وقال: رفقا بقلبك يا ولدي فلا تثبطنك الصَّواد، ولا تؤيسنك عتمات الطريق، فكل ليل يعقبه فجر، وكل قفل له مفتاح. إن الهناءة يا ولدي بغية كل الخلق أجمعين، لكن اختلافهم يكمن في طريقة البحث عن معناها، منهم من يظن أنها تحصل بكثرة المال، ومنهم من يعرّفها بالجاه والسلطنة، ومنهم من يراها أنها دّعة وترف، لكنهم يصطدمون بفقدانها حال وصولهم إلى ما كانوا يظنونه ذلك. لكن حقيقتها المجلوة هي أنها مقام لا يصله إلا من استمرأ من بحر التجريد، وامتلك مفاتيح نور الفهم المخبأ في جناح هذا الكون الفسيح، الذي لا يُرى إلا لمن لبس نظارة المحبّة.
قاطعته بلهفة: وأين توجد هذه النظارات؟ ارتسمت ابتسامة هادئة على وجه الرجل وقال: قد استودعها الله في قلوب أصفيائه وأحبائه.. هم رياحين الأرض.. أهل الصفاء الذين لا يفوتهم شيء ولا يقفون على شيء، قلوبهم شفافة منيرة يعبر نور الله من خلالها. ابحث عنهم واسمع منهم فالتتلمذ من الرجال مقدّم على كل العلوم.
مقالات مرتبطة
اشتعلت الحماسة في أوصالي كما تشتعل ألسنة اللّهب في أغصان جافة، واهتزت جوانحي وأحدثت في نفسي اتقاداً مشبوباً وقوة طاغية تتوق إلى اختراق سُدفة كل مقفل. ثم ألححت عليه بأدب: تراك يا رجل إن كان لك مزيد وقت وجهد أن تسعفني فتسمعني شيئا من خطابهم علّ قطرة من بحار علومهم تسقط على أديم القلب تحيي فيه زهرة خلاصي.
جلس الرجل مواجها إليّ في يقظة كأنه يستعد لسفر.. ثم بدأ ينتقي كلاما كأنه الشَّهد المُصفَّى يقطر من ثغره، يأخذ من محاسن الزهور بكل أنواعها فتخرج عسلا…الحياة يا ولدي لغز محيّر، شيء يُعرَف ولا يُعرَف، من يحاول استكناه معناها يتعب، ومن يسلس لها القياد يُسجن في توهمّاتها…
أكبر الخسارة هي أن تفهم الوجود كأنه ليس إلا طاحونة نقطع فيها أعمارنا لاهثين نصبا وراء السّراب.. هنا نفقد البوصلة…يجب أن تعرف أن الهناءة لا يفصلك عنها سوى أن تزيل عن قلبك غشاوة المادة التي تحجب عنك كل جميل في هذا الكون. لتعلم بعدها أنّ منتهى حاجة الإنسان في أن يأمن إلى ركن يجد فيه ذاته ويكتشف فيه مكنوناته ويحس فيه بانتعاشة الهواء العليل في سكونه، ويسمع الطير الشجي بنغماته، وأن ينسب كل نعمة للمنعم.
وتستلذّ بلحظات الصَّفاء التي يرق فيها الشُّعور ويتفتح القلب كأنه يريد أن يضم إليه كل جمال في الكون.. هناك يتشكل قلب الإنسان المطمئن. لكن لن يتحقّق فيك هذا الأمر إلا بالتحرّر من كدر الأغيار، وشهوة الخصومات التي ليست إلا حطب الحياة وخريف الأعمار، وحاجز لكل تقدّم.. والزم بساط السّلم والتمس دائما العذر، وتدثّر برداء العِفّة في كل شؤونك.. وعش دائما تلميذا مطيعا لمن سبقَك وخَبر الحياة قبلك، فعلى ابن الطّاعة تحلّ البركة.. أما المخالف فحاله تالف..!
يا ولدي.. مبتدأ الأمر ومنتهاه أن ترى العالم بكل مافيه بنظارات المُحبّ.. لأن المحبّة هي زناد كل أمر جميل، ما حلّت المحبّة إلا وحلّت معها الرّحمة.. فهي ترياق مجرّب، كما هو شعار المحبّين دائما: “الحبّ يهدّ كلّ كبرياء”.
الهناءة يا ولدي شعور لا يصله إلا من هو دائما في حالة سفر.. يترقب موعده.. ببساطة أن تعرف أنك مقيم مرتحل..!