سُلطان الآثرة..

انتشرت في المجتمع علل كثيرة أضرّت بكيانه، وأوهنت تماسكه وترابطه، حتى انحدر رويدا ريدا من عرش التسامي إلى فَرش التسفُّل.. خاصة فيما يتعلق بالجوانب الأخلاقية التربوية القيمية، إلى أن وصل إلى حد الانسلاخ من هويته وروحه الأصيلة.
مع هذا التدني الأخلاقي، شاع في جسد الأمة مرض خطير يسمى داءُ -سلطان الآثرة-، الذي أصاب المجتمع وتطبَّع معه، حتى صار أمرا طبيعيا عاديا، وكل من نادى بمواجهته كان صوته نشاز، ويرمى بالحمق والبله! وأنه ضعيف الفهم والخبرة في الحياة. والآثرة هي نوع من توثين الذّات، وتضخّم منسوب الأنا في النفس البشرية، حتى تطفو على سطحها تلك الأنانية المُستعلية التي تحجب عن صاحبها كل فضل ومحمدة عند الآخر، وتصدُّ عنه كلّ وصف جميل.
بحيث أصبح حاليا المجتمع يعيش على علاقة تعاقدية نفعية جافة، لا روح فيها ولا حياة، بل ويرفع لها شعار “المصلحة سيدة الموقف”، التي تصنّف الإنسان آلة وظيفية، وتزن قيمته حسب تراتبية المادة والحظوة الاجتماعية. أما الغريب في ذلك، هو تثبيت هذا المفهوم حتى صار عِلما يُدرَّس وتقام له دورات تدريبية، في عناوين خدّاعة كبيرة مثل: (حبّ الذات، أنت أفضل، أنت أقوى من الآخرين)، قد تبدو أنها عناوين رنانة مثيرة للحماس، لكن في لججها يغرق الوافد في شِراك الأنانية والآثرة، يهفو إليها كل ضعيف شخصية، مصاب بهشاشة نفسية.
يكفينا أن نزيح عن أعيننا غِشاوة المادة الجارفة، ونضع منظار المنهاج الإيماني النبوي، فنرَى أن الهوة سحيقة بين ما عندنا من مبادئ وقيم، وما نحن غارقون فيه. فالإسلام دين ثرٌّ بالمعاني التي تحثّ على معاملة الآخر بالرحمة والتعاون والخدمة، وأن ما يجمعنا بالإنسان هو التراحم والتعايش والإيثار، وفي هذا حديث النبي الكريم ﷺ، الذي يقول بأن إيمان المرء لا يكمل حتى تحب لأخيك ما تحبُّ لنفسك، وفي حديث آخر بأن المؤمنين جسد واحد يجمعهم التواد والتعاطف.
ولم يبق هذا حبيس ألفاظ وكلمات في سطور، بل تمثلها الصحابة الكرام في الصّدور، وتحققوا بها في الأمصار والدُّور، ولنا نموذج في ذلك لمجتمع فاضل تجلّت فيه هذه المعاني، وهو مجتمع المدينة المنورة الذين جاء وصفهم في كتاب الله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون}. [الحشر: 9].
ومعنى ذلك أن وطنهم كان سكنا لكل شريد وغريب، ومأوىً لكل طريد…، وأهلها يرحبّون بكل من أتى إليهم، ولا يحملون في قلوبهم ضغينة أو بُغض أو تنافر، ويقدمون للآخر ما يحبّون، وتغلبوا على شحّ النّفس. وهكذا يجب أن نكون!
هذه ثقافتنا وهذه رسالتنا في العالمين، لكن أنياب الطمع التي التهمت النفوس، وترسبات التاريخ، خلعا عن الأمة عِذار الهوية الأصيلة، وصرنا تبعا لقوم لا بوصلة لهم ولا روح ولا أخلاق، وهكذا هو منطق تغالب الثقافات بين الأمم، حيث يذوب الضعيف في القوي.
أصبحت هذه المعاني مُغيّبة في الواقع واندثر طيبُها، وتُركت السّاحة فارغة، فملأتها أصوات تنادي أن ذلك زمان قد ولّى…، وهذا أوان التعايش مع الآخر بعُملة المصلحة. والنتيجة.. نضوب معين الأخوة والتّحاب، بحيث صار النّاس أقفاصا بلا طيور، في مشهد مُخز، نرى فيه خذلان الأخ لأخيه، وغياب التراحم حتى أصبح الإنسان لا يحفل بشيء إلا بما يتصل بمطامعه وشهواته، ولا يأبه إن ضحك وسعِدَ هوَ والعالم باكٍ حزين، ولا يهمه إن هلك الناس مادام هو في هناء وراحة، ولا يبالي إن جاع جاره إذا كان هو في نعيم وترف. -هذه العلاقة النفعية المقيتة المسقوفة بحدود المصلحة هي التي أوهنت نفوسنا-
إذا نظرنا من أعالي التاريخ، سيظهر لنا وميض من أثر ترسبات أسباب الضعف والهوان الذي وصلنا له، فكل حدث نعيشه له امتداده التاريخ في الأمم السابقة، فمنذ مئات السنين بعد أن انتقل الأمر من الشورى إلى الاستبداد ومن الاستهانة بالموت إلى حب الحياة والتعلق بلذائذها، أصابت الأمة هذه الغثاثية -ولكنكم غثاء كغثاء السّيل- وأصبح الإنسان أكثر ضمورا وتقوقعا على محيطه الصغير بل ربما على ذاته فقط.
وقد قال أحد الحكماء النبهاء:  “أنتم بخير ما دُمتم تقولون نحن.. فإذا قال الواحد منكم (أنا) حُرِم فضل الاخرين وهدّم ما بنى…”
1xbet casino siteleri bahis siteleri