فن الصمت

قد يتفاجأ القارئ بالمقال من عنوانه فيتساءل: كيف لنا أن نعتبر الصمت فنا؟ وإذا كان الفن يعبر عن كل ما فيه إبداع ومهارة، وينال تقييما حسب مستوى جماله، دقته ورسالته أيضا؛ كلوحة تشكيلية أبدع الرسام في تنسيق ألوانها أو موسيقى عذبة أبهجت متلقيها أو عملا مسرحيا أثر في مشاهديه عبر شخوص معينة وقصة محبوكة، فكيف للصمت أن يرتبط بهذا المفهوم الراقي؟

أقر أنها أسئلة منطقية وواردة جدا. فطبيعة المجتمع الذي نعيش فيه ومجموع المعتقدات السائدة، غلفت مفهوم الصمت برداء الغموض وأسقطت البعض في فخ اللامبالاة تجاه وسيلة لا أعلم هل يصح تشبيهها بـ”صندوق العجائب” الذي خبأ فيه “سيدي محمد”، بطل قصة الكاتب أحمد الصفريوي، كنوزه الثمينة وجعل منه الأنيس في لحظات الوحدة والملاذ عند الإحساس بالضيق.

لا شك أن الله سبحانه وتعالى خص الإنسان بمكانة عظيمة دونا عن باقي الكائنات؛ تجلياتها عديدة، ونخص هنا بالذكر لغة التواصل. يتميز الإنسان بقدرته على التعبير عن أفكاره، وآرائه ومشاعره عبر تركيب كلمات مختلفة تأخذ معنى معينا. هذا التعبير هو ما يتيح له الاندماج داخل محيطه الاجتماعي، ونسج علاقات مع الآخرين في إطار ممارسته لأنشطته اليومية.

تناولت عدة مراجع أدبية وفلسفية موضوع لغة التواصل البشرية بطرحها لاستفسارات عدة حول ماهية هذه الملكة، مدى قوتها وتأثيرها على سير الحياة الاجتماعية إيجابا أو سلبا. أستحضر هنا مقتطفا من كتاب “النبي”؛ أحد أشهر مؤلفات جبران خليل جبران: “ثم قال له عالم: هات حدثنا عن الكلام. فأجاب وقال: إنكم تتكلمون عندما توصد دونكم أبواب السلام مع أفكاركم. وعندما تعجزون السكنى في وحدة قلوبكم، تقطنون في شفاهكم والصوت يلهبكم ويسليكم. وفي الكثير من كلامكم يكاد فكركم يقضي ألما وكآبة؛ لأن الفكر طائر من طيور الفضاء، يبسط جناحيه في قفص الألفاظ ولكنه لا يستطيع أن يحلق طائرا”.

يتبين جليا من خلال هذا المقتطف أن الكلام تعبير عن اصطدام قوي مع الأفكار وعن تحطيم مباشر للسلام الباطني. يظهر الكلام بصورة سوداوية في مختلف مواقف الحياة بسبب توظيفه في الكذب والنفاق، في المكر والخداع، في ظلم الضعيف واحتقار الفقير، أثناء تغييب القيم الأخلاقية السامية مقابل تضخيم الأنا والبحث عن سعادة يجهل المرء أنها مزيفة، فانية ولن تدوم أبدا. هذا لا يعني أن يتخلى الإنسان عن الكلام ويقعد في عالمه وحيدا، ملتزما الصمت، ليبعد نفسه عن المشاكل والصراعات. وإنما المقصود أن يحسن توظيف هذه الملكة، أن يكون رقيبا عن لسانه وأن يعتمد على قوة الصمت في محادثاته.

مقالات مرتبطة

يقترن الصمت بحسن الإصغاء، الأمر الذي يزيد من فعالية الحوار ويسهل على المخاطب ومتلقيه تبادل الأفكار ومناقشة المواضيع. هو أداة تتيح كذلك للفرد المجال لترتيب أفكاره بتأن حتى يتمكن من صياغتها بعبارات واضحة وأسلوب سلس. كما أنه وسيلة للتحكم في الذات في الأوقات العصيبة، حينما يشتد النقاش أو تختلف وجهات النظر وأنتم تجلسون في قاعة الاجتماعات، تبسطون على الطاولة أوراق مشروع ما.

و بعيدا عن تقنيات التواصل، عرف الصمت على أنه إحدى سمات الأذكياء والحكماء. ولو أنني أرى أن الصلة بين الذكاء والصمت تظل نسبية لا يجوز تشبيهها بعلاقات الرياضيات استلزاما كان أو تكافؤا. ولكن منطقيا، أن تجد لنفسك مجالا لتفكر بعمق وهدوء، وتستجمع قواك فتوجهها لما ترغب في تحقيقه، أليس ذلك بقادر على منحك فرصا ثمينة للإبداع؟ نعم، هو كذلك.

أفلاطون، الفيلسوف اليوناني والرياضياتي الغني عن التعريف، الذي لا طالما استمتعت بأقواله من خلال دروس أستاذي في السنة الأولى ثانوي، يقول: “الرجل الحكيم يتحدث لأن لديه شيء يريد أن يقوله، بينما الأخرق يتحدث لأنه يريد أن يقول شيئا”. أما سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أحد أشهر القادة في التاريخ الإسلامي ومثال الشهامة والعدل والإنصاف، فقد قال: “ما ندمت على سكوتي مرة، لكنني ندمت على الكلام مرارا.”

وقبل أن أختم تصوري لمفهوم الصمت، أود أن أشير لارتباطه بموضوع مهم جدا، أحسبه قريبا لشخصي وسررت كثيرا بقراءة سطور مقال حوله تحت عنوان: “لكي تفهموا الانطوائيين…لأني منهم!” الانطوائي شخص يختار الصمت والعزلة ليتمكن من الغوص في معالمه الباطنية مستمدا منها الإلهام والشجاعة، بعيدا عن تفاهة المحادثات السخيفة التي لا تخلو من الغيبة والنميمة، وأحيانا عن أناس اعتادوا ارتداء أقنعة تظهر وجوها مزيفة وتخفي حقيقة قلوب خبيثة.

بالصمت ينجح الانطوائي كذلك في تحليل الآخر وفهم نفسيته إلى حد ما، فيتمكن من اختيار أنسب ردات الفعل ومن تحديد مدى قدرته على التوافق مع الغير في الأفكار أو على الأقل في الخروج بنقاش بناء والحفاظ على علاقة محايدة. إذا كان الصمت سبيلي لإنجاح عملية التواصل مع محيطي الخارجي، وإذا كان كفيلا بمنحي مجالا للتركيز على ذاتي وتوجيه إمكاناتي الإبداعية، فأنا أعتبره فنا راقيا لا يستهان بقيمته وسلاحا ثمينا لا ينبغي الاستخفاف بقوته!

1xbet casino siteleri bahis siteleri