دعني أحدثك عن عالمنا قبل الوباء، أذكرك بالتفاصيل الصغيرة التي لم نكن نلحظها ونحن نمضي في درب حياتنا مسرعين والتي ما لبثنا أن اشتقنا إليها بعد الحجر، سأحدثك عن الصباح الباكر وأنت تستيقظ بتثاقل للذهاب إلى العمل متمنيا فقط العودة للنوم بضع لحظات، تقوم على مضض لارتداء ما تيسر أمامك من ملابس وأنت عازم على توفير بعض المال من أجرتك القادمة لاقتناء ملابس جديدة فزملاؤك ورؤساؤك بل والكل في وسائل التواصل الاجتماعي لهم ملابس لا تحصى، يغيرونها باستمرار، فلم لا تحذو حذوهم فقد يتسنى لك إثارة إعجاب إحدى الفتيات الجميلات اللواتي تلتقيهن في طريقك للعمل، تجمع شتات أفكارك وتنتبه لساعة يدك، ينبغي أن تسرع لتلحق الأتوبيس وألا فستتأخر عن دوامك، ركبت الباص وأنت منشغل بهاتفك لا تدري لم يشعرك بالتوتر أكثر من العمل، لم رؤية الجميع يغرقون في فيض من السعادة العارمة يجعلك في ضيق، ألا ينبغي أن تفرح لفرحهم وهم صناع السعادة، أقصد المحتوى، لم تحس عند متابعة جديدهم بأنك دون المستوى وأنه يلزمك الكثير لتكون سعيدا مثلهم. تلزمك ملابس وتكنولوجيا وسفر لجزر آسيا وجولة في أوروبا وسيارة جميلة وعشاء في مطعم فاخر واشتراك في ناد رياضي فخم، والمزيد المزيد من الأشياء التي لا تمتلكها الآن، فتدخل في دوامة من الأسئلة التي لا تنتهي من قبيل كيف يجنون كل هذا المال؟ هل هم حقا سعداء؟ تحاول أن تقنع نفسك بأنهم بشر ورغم المثالية التي يظهرونها والنعيم الذي يعيشونه لا بد أنهم يحزنون و يمرون بأوقات سيئة مثلنا.
تعيد كل هذا في نفسك وأنت تدري أنك بعض لحظات من الٱن ستعود لنفس القلق، وستكرر نفس الأسئلة، وتظل متخبطا بين نفسك المرتبكة والحساسة وهاتفك الذي لا يتوانى عن إشعارك بكل جديد، وأنت تفتحه فضولا وخوفا من أن يفوتك شيء ما، عندما تصل وجهتك تنظر حولك لتجد أن الكل مثلك، الكل منشغل بهاتفه الذي يمتصه من محيطه امتصاصا يجعله فاقدا للوعي والإحساس بما يدور حوله، تطمئن نوعا ما لأنك – وعلى ما يبدو- لست الوحيد الذي يعيش هذه العلاقة الخاصة مع هاتفك، بل أغلب أبناء جيلك. تسرع نحو عملك متجاهلا أسئلتك وتمر الأيام إلى أن يحدث ما لم يكن في الحسبان، ويأتي اليوم الذي تجد فيه الإجابه الشافية والمقنعة لكل تساؤلاتك عندما حل الوباء وساوى بين الغني والفقير، المؤثر والمتأثر، الكل عاد للعيش على الضروريات من مأكل ومسكن؛ فقد ألغيت الرحلات والمطاعم والفنادق، فهمت من هذا الفيروس أن الناس ضعفاء رغم ما يبدونه من قوة ولا فضل لأحدهم على الآخر إلا بالتقوى، وأن أكرم الناس أتقاهم.
