قبل أَن تكون طبيبا

تصلني رسائل على البريد الإلكتروني وصفحتي المهنية، كما أتلقى مباشرة الكثير من التساؤلات حول تجربة دراسة الطب والعمل كطبيب في المغرب. تأتي أغلب هذه الأسئلة من أمهات وآباء يريدون لأبنائهم الناجحين في الباكالوريا أن يسلكوا هذا الطريق أو من المعنيين بالأمر أنفسهم، أي من الطلبة اللذين لا يعرفون إلى ما ستؤول إليه حياتهم إن هم إختاروا هذه الشعبة جميلة المظهر، صافية المخبر، صعبة المنال والتي يشوب طريقها الغموض والكثير من الصعوبات … سأفصح عن رأيي الصريح بعجالة في هذا المقال على أن أتطرق لتفاصيل أكثر دقة في مناسبات أخرى إن شاء الله.



تكونت في مراحل الطفولة الأولى في مخيلة كل منا صورة ذهنية عن مهنة الطبيب. وارتبطت هذه الصورة بالنبل والرحمة والعطاء والصفاء والإنسانية لنقاء قلوبنا آنذاك وصفاء سريرتنا وقربنا من الفطرة الأصيلة. كما كنّا نرى في الطبيب ذلك البطل الذي يخلص الناس من آلامهم وأحزانهم بزيه الأبيض الناصع ونقرنه بالأبطال الإفتراضية الكارتونية اللذين كانوا يحاربون الأشرار بأزيائهم الملونة؛ لم نكن نرى في الطب مصدرا للغنى المادي ولا مصعدا لتسلق المراكز الإجتماعية ولا بوابة لعالم السياسة؛ الطفل الذي بداخلنا كان يرى فقط الصورة البطولية التي تعطي للحياة التي كنّا نستعد لخوضها معنى وغاية ورمزية. أتذكر أن أغلب الأجوبة على السؤال الكلاسيكي الذي كان يطرح في كل المناسبات : “ماذا تريد أن تصبح حينما تكبر؟” كانت تتراوح بين طبيب، شرطي، رجل مطافئ أو معلم؛ أي المهن التي تحارب الألم، الفوضى، النار والجهل. فيما بعد، أصبحت شريحة كبيرة تختار مهنة الطب – بعد انتكاس الفطرة وطغيان المادة والتمركز حول الذات – أولا وقبل كل شيء للمكانة الاجتماعية المرموقة والتقدير اللذين يحظى بهما الطبيب، والمال – طبعا – الذي يجنيه من ربح المصحة أو العيادة. تحولت الغاية من دراسة ومزاولة الطب إذن من رسالة كانت تناسب الطبيعة الإنسانية المجبولة على فعل الخير وإيجاد معنى للحياة إلى استثمار مادي صرف للوقت والجهد من أجل تحقيق الربح الشخصي والمادي على المدى المتوسط والطويل؛ وإن كان الربح ضرورة ملحة أصبحت تفرضها الحَيَاة، بل يفرضها المنطق البشري – أخذ أجرة عن العمل – وتفرضها كذلك تطلعات الفرد ليعيش حياة كريمة مريحة تضمن مستقبل أولاده وأفراد عائلته كجزاء على السنوات العجاف الطوال التي أفنى فيها الطبيب شبابه لتعلم إختصاص معين أو في بعض الأحيان تقنية دقيقة واحدة يسد بها حاجة مجتمعاتية ملحة. الربح ليس مطلوبا لذاته ولكنه ضروري.

مقالات مرتبطة

ما يحدث وما شاهدته طوال سنوات مزاولة هذه المهنة هو أن بلدنا، مع كامل الأسف، يفتقر للأساليب البيداغوجية لتدريس الطب كما هو الحال في الدول التي تحترم العلم وتقدسه. الامتحانات لا تقيم مهارة الطالب في فهم مسببات الأمراض فهما ذكيا سلسا دائما، ولا مهارته في التشخيص والعلاج بطرق تعليمية تواصلية؛ أغلب الأساتذة لا يعطون القدوة الحسنة بل أمثلة سيئة في سوء التربية والكبر والسادية والمادية واللامبالاة. يأتون لإلقاء الدرس برتابة لكي يذهب الطالب بعد ذلك لحفظه حفظا قرآنيا، ثم يأتي ليتقيأه يوم الامتحان، لينساه بعد ذلك. أما التكوينات في المستشفيات الجامعية فتضع الطالب أو الطبيب الداخلي والمقيم بين يدي أساتذة متعجرفين إلا من رحم الله، وغائبين- لأنهم في المصحات الخاصة يتنافسون- إلا القليل ممن يستحق فعلا أن ينادى بهذا اللقب: “أستاذ”، وبين أروقة مستشفيات هشة تعمها الفوضى وتفتقد للوسائل العلمية والتعليمية والتكنولوجية والجو المناسب لتلقي وتدارس العلم والإبداع فيه.




عندما كنت طالبا في في الكلية، أثار إنتباهي تصرف “بعض” الأساتذة الذين كانوا يستغلون المرتبة الإجتماعية التي يخولها لهم هذا اللقب للإستفادة من الكثير من الصلاحيات التي يوظفونها بطريقة غير قانونية في القطاع الخاص المدر للربح، بأن يستدرجوا مرضى المستشفيات العمومية إلى المصحات الخاصة، ويستعملوا مكانتهم الجامعية كوسيلة تسويقية لتجارتهم خارج أسوار المستشفيات العمومية، ويزاحموا إخوانهم الأطباء في القطاع الخاص الذين كانت لهم الجرأة بأن يفتحوا عياداتهم ويتحملوا أعباء المصاريف الشهرية والضرائب الباهضة، وكانت لهم الشجاعة الكافية لكي يدخلوا في منافسة شريفة مع إخوانهم، منافسة مبنية على الكفاءة والسمعة الطيبة عوض الألقاب الواهية والترزق من وراء جدر.
كنت أطرح الكثير من الأسئلة عندما كنت أشاهد مثل هذه التصرفات ممن كانوا في هذه المناصب المرموقة : كيف سيُصبِح لنا شأن في الميدان الصحي ومن سيقوم بتدريس الطلبة وتكوين الأطباء الداخليون والمقيمون ناهيك عن البحوث العلمية إن كان مثل هؤلاء يقضون معظم أوقاتهم في المصحات الخاصة ؟ بدون أن نتحدث عن الإكتشافات في ميدان الطب في بلد مثل المغرب لأن هذا كان يبدو لي ضربا من من ضروب الخيال ؟ إلى أين يتجه بلدي في قطاع حيوي كالصحة إذا كان الأستاذ المبرز في الجراحة يستيقظ صباحا متجها للمصحة الخاصة عوض أن يتجه إلى المصلحة العمومية التي عين فيها لكي يعالج المغاربة ويدرس أبناء المغاربة ويزكي من وقته لكي يتقدم المغرب علميا ؟

كانت هذه الأسئلة تؤرقني وتجعلني غير متفائل بخصوص مستقبل الصحة في بلدي
لم أَجِد لهذة الأسئلة أجوبة سوى أن أمور الصحة أسندت مع كامل الأسف إلى غير أهلها وأن الكثير أساءوا الإختيار من البداية عندما اختاروا الطب كمنهاج ورسالة في الحياة، أو ربما أنه عندما يتخرج الطالب من كلية الطب كطبيب عام أو متخصص فإن الماراطون الذي شارك فيه طوعا يجعله يتغير ويسعى إلى استرجاع سنوات شبابه التي ضاعت في كليات بلدنا المملة ومستشفياته البئيسة وأساتذته المعقدين. يسعى مع كامل الأسف كما يقال للانتقام لكن ليس من المنظومة التي بلَدته- “من البلادة”- واستنزفت شبابه وقدراته وأحلامه وأمانيه، ولكن من المجتمع بكامله بأن يصبح أنانيا ماديا لا يبالي أأتقن عمله وأخلص فيه أم لا.
شخصيا لو رجع بي الزمن إلى الوراء لاخترت الطب لحبي الشديد لهذه المهنة رغم كل الصعاب. عانيت كثيرا لكي أتأقلم مع الطريقة التي يعلم بها الطب وعقليات القيمين على هذا القطاع في بلدي، خصوصا بعد المقارنة مع التعليم البلجيكي والكندي اللذين كونا جزءا من شخصيتي الطبية.
باختصار: من أراد أن يدرس الطب في المغرب عليه أن يحب هذه المهنة من أعماق أعماق قلبه ليتخطى كل ما ذكر.

إلى أن نرقى إلى مستوى الجامعات العالمية التي يحج إليها الطلبة من كل أنحاء العالم لجودة التعليم ومنهجية التعلم، إلى أن تتحول مستشفياتنا الجامعية إلى مراكز فعلية لطلب العلم، إلى أن نصير يوما ما نريد، أتمنى أن يجد هذا المقال القارئ الذكي، الذي يفهم من كلامي أنني لا أحث الناس على الهجرة ولا على هجر الطب. مقالي يريد للذي يلج هذا الميدان في بلده أن يلجه عن بينة لكي لا يصدم بالواقع. أريد أن يلجها الشغوفون فقط، الذين يحبون هذه المهنة، ومستعدون للتضحية من أجل نيل أسرارها، وتغيير واقعها في مغربنا الحبيب



1xbet casino siteleri bahis siteleri