كلما ابتعدت اقتربت

نظن بأن بعض الوجهات بعيدة جدا وأننا سنحس فيها بالغربة والغرابة؛ الغريب أنها قد تكون أقرب إلى عقلية مجتمعنا وطابعه وتركيبته النفسية من بعض الدول التي لا تفصلنا عنهم سوى بعض الكيلومترات، فلا تحس بالوحشة التي ظننت،بل بالعكس؛ ينتابك شيء من الإنتماء بمجرد أن تطأها قدمك، وإن كان يفصل بينها وبين مسقط رأسك محيط بأكمله، وإن كان أهلها يتحدثون بلغة لا تفهمها، وإن كنت لا تعرف أي شيء عن عاداتها وتاريخها وثقافتها.

ثمن التذكرة من المغرب إلى البرازيل مرتفع جدا. يمكنني بهذا المبلغ أن أقوم بخمس رحلات إلى خمس عواصم أو مدن أوروبية، أو أن أزيد عليه بعض الشيء فأقوم بتأدية مناسك العمرة، أو أن أسافر به إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي لم أتمكن إلى الآن من زيارتها، أو أن أضاعف المبلغ فأقوم بسفر علمي إلى إحدى المدن الأوروبية لأتعلم تقنية جراحية. كل هذه الاختيارات تباغتك عندما تريد أن تختار لحياتك وجهة أو تحدد لسفرك هدفا. الكم الهائل من الاحتمالات التي أفكر فيها عندما أريد أن أسافر، الأماكن التي أريد أن أزورها؛ الثقافات التي أريد أن أكتشفها؛ التجارب التي أريد أَن أعيشها،؛ كل هذه الأشياء تحضر في نفس الوقت لتطالب بحقها عندما تكون النفس مهيئة لإستقبالها، أو مستعدة لكي تسافر إليها.

أحب من البلدان أبعدها؛ تلك الأراضي الخالية من الذكريات التي لا يعرف فيها إسمي أحد؛ تلك الأوطان التي لم أسمع عنها شيئا ممن هم حولي.  فعندما يقوم شخص بوصف ما عاشه في منطقة ما، أبدأ برسم ملامح ووضع صور عن أشياء في محاولة يائسة للسفر حيث كان؛ لكني أحكم مسبقا على المكان حينما أعيش تجربة شخص آخر، أدخل لا إراديا في دائرة الأوهام والأحلام.

أحب من البلدان تلك التي لا أحس فيها بغربة قاتلة تجعلك تجتهد لكي تتأقلم فيها، ولا بتشابه ممل مع ما عهدته نفسك وألفته عينك؛ فرنسا مثلا، كان ثالث بلد أزوره بعد تونس ومصر. قضيت في “أميان” شمال باريس ثلاثة أشهر خلال منتصف العشرينات من عمري. لم أتأقلم مع ثقافة البلد ولا مع روحه ولا مع شعبه ولا مع أساتذة الطب الذين كانوا يدرسونني، ولا مع زملائي الأطباء الفرنسيين ولو أنهم كانوا من أصول أوروبية مختلفة. الذوبان في الثقافة الفرنسية والتأقلم معها بشكل جيد يستدعي منك في أغلب الأحيان أن تستغني عن ثقافتك الأصلية ومكوناتك الأساسية. الإندماج في فرنسا صعب للغاية، يستدعي منك أن تخرج من بنيانك الحضاري والنفسي الذي تشكل في ثقافة عربية أو أمازيغية مسلمة لكي تتبنى بنيانا حضاريا ونفسيا آخر.

مقالات مرتبطة

“صورة للكاتب : ريو دي جانيرو وقت الغروب “

من طبعي أن لا أضحي بجزء مني لكي يقبل بي الآخر. “سي آبغوندغ أو آ ليسي” كما يقولون في فرنسا. أظن أن هذا ما يجعلني أشعر بالغربة في كل مرة أزور فيها هذا البلد ولو أن بنيانه وهندسة مدنه مؤلوفة جدا؛ هذا الإندماج المريح لم يتحقق يوما ما في هذا البلد بالرغم من أني أتكلم اللغة الفرنسة منذ نعومة أظافري وبالرغم من كوني درست في المدارس الكاثوليكية الفرنسية في مرحلة الإبتدائي وبالرغم من كوني أقرأ لمجموعة من الأدباء الفرنسيين ومفكريهم وبالرغم من إدماني لمدة طويلة على القنوات الفرنسية. لكنه تحقق بكل سهولة وبسرعة فائقة خلال أول أيام رحلتي للهند بالرغم من الثقافة الهندية المزركشة والديانة الهندوسية المهيمنة والغريبة تماما عني، وبالرغم من أربعة عشر ساعة من الطيران إلى نيودلهي، وبالرغم من هندسة مدنية ونسيج إجتماعي وطريقة تفكير مختلفة تماما عن كل ما عرفته منذ ولادتي.

درجة الإندماج مع ثقافة ما، الإرتياح في مكان ما، يشبه إلى حد كبير درجة الإنسجام أو النفور الذي نحس به تجاه الأشخاص؛ عندما نتبادل أطراف الحديث أو بمجرد الإنصات أو رؤية شخص ما فإننا نحس لأول وهلة بشيء يجذبنا نحوه أو ينفرنا منه؛ ربما لأننا كما نبحث في الأشخاص عما يتميزون به عنا، أو عما يوفروه لنا من أحاسيس نتوق إليها فإننا ننجذب إلى الأماكن التي نحس فيها بما لم نحس به في أوطاننا أو ما لم نجده بعد في محيطنا … أو ربما يكون السفر والتجوال هو ما يعطي لنا هذه الإيحاءات الإيجابية المريحة بخصوص مكان ما إذا ما توفرت فيه أبسط الظروف التي تتوق لها أنفسنا؛ قد تكون هذه الأشياء والظروف مواتية وبالقرب منا، من الرباط ببضع كيلومترات فقط، ولكننا نريد أن نبتعد، لنذهب بعيدا … لأننا كلما ابتعدنا اقتربنا … كلما ابتعدنا في المسافات، إلى أرض لا نعرفها؛ كلما قضينا ساعات التفكير الطوال، ساعات الصمت، ساعات المناجاة الذي يتطلبه الترحال من مكان إلى مكان، كلما انفتحت البصيرة وتيقظت الحواس واقترب المرء من نفسه، استطاع أن يلمس جمال ما حوله. فرنسا لا تلهمني ولا تشبهني ولا أجد فيها ما يخالف ما أنا عليه. الهند، على عكس ذلك، تزعزع القناعات وتطوي المسافات وتقرب المرء إلى عمقه، وتصالحه مع روحه.

انجذبت نفسي للبرازيل منذ مدة طويلة، منذ صغر سني، لأن عائلتي والكثير ممن كانوا يكبرونني كانوا يشجعون هذا البلد إذا لعب مع بلد أوروبي؛ كانوا يقولون لي بأننا مثلهم ونتضامن معهم، لأنهم أقرب منا من الأوروبيين وإن كانوا بعيدين عنا منهم، وأنهم عانوا من الإستعمار مثلنا؛ بأنهم يعانون من الإستغلال والفقر والتخلف والجريمة مثلنا كذلك؛ لم أفهم يومها ما دخل هذه المصطلحات العميقة بمباراة في كرة القدم؛ كنت أشاهد طريقة لعبهم رفقة الكبار الذين يربطون الكرة بالسياسة والسياسة بأشياء أخرى لا أفهمها. طريقتهم في اللعب مختلفة عن طريقة لعب الأوروبيين؛ الكثير من المراوغات الرائعة، الكثير من التقنيات الفردية المدهشة، الكثير من السحر الكروي. أحببت حينها كرة القدم ثم أحببت البرازيل لأنها أحسن من يلعب الكرة، ثم ربطت كرة القدم البرازيلية بالسامبا ثم فهمت بأن أكثر اللاعبين منحدرون من عائلات فقيرة تسكن الفافيلا ثم شاهدت فيلم “سيتي أوف گوض” فزاد اهتمامي بالبرازيل، ثم بدأت أقرأ للكاتب البرازيلي باولو كولهو كما هو شأن أي قارئ مبتدأ فزاد تعلقي بالبرازيل ثم عرفت بأن أكبر غابة في العالم “الأمازون” توجد في البرازيل … ثم التقى المغرب بالبرازيل في نهائيات كأس العالم في فرنسا فربحت البرازيل بثلاثة أهداف، ثم أهدرت البرازيل فرصة مرورنا للدور الثاني عندما تعادلت مع النرويج، ساعتها خذلتني البرازيل؛ فكرهت البرازيل لسنوات !

مرت عشرون سنة منذ أن تم إقصاء المغرب في كأس العالم بسبب البرازيل؛ سنوات كفيلة بأن أفهم بأن الساحرة المستديرة تخلط الكثير من المفاهيم وتلهي عن الكثير من الأشياء. سنوات كفيلة بأن أعرف عن البرازيل، خصوصا عن غابة الأمازون الأسطورية الكثير من الأشياء من خلال العديد من البرامج الوثائقية، ما جعلني على أهبة الإستعداد لسنوات، أتصيد فرصة سانحة لكي أسافر إلى بلد السيليساو، أوسع بلد في أمريكا اللاتينية وخامس أوسع بلد في العالم وثامن أكبر قوة إقتصادية … “يتبع”

1xbet casino siteleri bahis siteleri