كن ابن من شئت واكتسب أدبا!

أيا كان منصب الإنسان، ومكانته في الوسط الذي ينتمي إليه، لا شك أن خُلقه هو ما يقرب الناس أو يجعلهم ينفرون منه، وهذا أمر منطقي، لأنه أيا كانت المنفعة التي يقدمها الواحد منا لمن حوله، فإن طريقة تواصله معهم تقوم بدور أساس في هذه العملية، كون طريقة التعامل هي الأداة التي تخول له تحقيق تلك الفائدة.

إذا أخذنا مثل الرسول ﷺ كخير من مر على البشرية، فإن أول ما يتبادر في الذهن هو خلقه الحسن عليه الصلاة والسلام، الذي وصفه الله سبحانه وتعالى قائلا: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ولا يوجد وصف أبلغ من هذا؛ حيث إن أهل قريش كانوا يلقبونه بالصادق الأمين، وأكثر من ذلك، أن ألد أعدائه لم يتجرؤوا يوما على الطعن في خلقه. وهذا موضوع يدعو للتأمل والتفكر، فالرسول ﷺ، لم يذع صيته بماله، ولا حسبه ولا لآلة اخترعها أو شيء اكتشفه، ومع ذلك فإن التاريخ خلد اسمه كأعظم من داست رجله على الأرض، وأخير الناس منذ بدء الخلق. لدرجة أنه لا زال يستمر ذكره والاستشهاد به، وبمواقفه بعد خمسة عشر قرنا من وجوده. والعجيب في الأمر، أن واقعة وفاته وتأثر صحابته ووردود أفعال محيطه على إثرها لا يمكن إلا أن تحرك مشاعر القارئ، متأثرا بها وكأنه يعيش واقعة وفاة أحد أقاربه.

في الحقيقة، لا أظن أن كل هذه الأمور محض صدفة؛ طفل يتيم، نشأ بين أعمامه، أميٌّ، لا يقرأ ولا يكتب. يبدأ حياته كراعي غنم، ثم يصبح تاجرا، يلقب بالصادق الأمين، فتستأمنه إحدى أغنى نساء قريش على مالها وتجارتها، ثم ترغب بالزواج منه. وتأتي لحظة الوحي، ويصبح نبيا، بل وخاتم الأنبياء، ويشرع في الدعوة، لكنه يتعرض لجميع أنواع الأذى. وعندما يبلغ الضرر أشده، ويرسل الله له جبريل عليه السلام ليطبق عليهم الجبال انتقاما له، يرفض النبي ﷺ ويدعو لهم بالخير. يصبح أحد أعظم القادة في التاريخ، فيرحم الضعيف ويوصي بالطفل الصغير والعجوز. حتى أن جذع الشجرة التي كان يؤم الناس عليها بكى على فراقه عندما صنعوا له منبرا. ثم تأتي لحظة الوداع، فيخطب على الناس خطبته الشهيرة موصيا بطيب الخلق شاملا به كل المواضيع. هل كل هذا محض صدفة؟ هل قوله ﷺ: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.» أيضا صدفة؟ هل قوله سبحانه وتعالى في كتابه: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ } أيضا محض صدفة؟ بل المسألة أعمق من ذلك. والتفكر فيه سيجعلك تتحقق من الأمر. وهنا لا أستطيع المرور دون الحديث عن قصيدة البردة للإمام البوصيري رحمه الله، صنفت كأفضل قصيدة في المديح النبوي خاصة، وأشهر قصيدة مدح في الشعر العربي عامة، في العالم الإسلامي. لما لها من أثر كبير في تعليم الناس الأدب والتاريخ والأخلاق، سواء بمكانتها الأدبية، أو برسائلها القوية التي تصف عظمة النبي ﷺ حيث يقول فيها في أحد الأبيات:

وانسُبْ إلى ذاتِهِ ما شـئتَ مِن شَـرَفٍ *** وانسُب إلى قَدْرِهِ ما شئتَ مِن عِظَـمِ

لكن الأخلاق ليست وليدة اللحظة، بل هي مجموعة من التجارب المحملة بالدروس والمواعظ، التي يبدأ الإنسان في صقلها بمجرد أن يضع رجله خارج رحم أمه. والداه، وعائلته، ومدرسته ومحيطه عامة يساهمون في هذه العملية المعقدة. وبين تعلم، واقتداء، وتقبل، واحتجاج، وانتقاد وتمرد إلى غير ذلك، يكبر الإنسان لتصبح له رؤيته الخاصة حول الأخلاق. هناك من يتسم بالهدوء، وهناك من يتميز بخفة الدم. البعض اجتماعي، والبعض الآخر منغلق على نفسه. هناك من يبدو غير مبال، وهناك من يغلب عليه الانفعال، كل على شاكلته، لكن فقط هي التفاصيل الصغيرة التي تظهر صلب الأخلاق. ففي نهاية اليوم، قد يذكرك الناس لجمالك، أو ذكائك أو حذاقتك لفترة قصيرة مهما طالت. لكن أخلاقك هي ما سيرسخ ذكراك عند الجميع دائما وأبدا، مهما بلغت من النجاح والشهرة.

خلال أحد أيام تدريبي في المستشفى الجامعي، عشت حدثا قصيرا، كان كفيلا بتغيير رؤيتي للكثير من الأمور. القصة بدأت مع انتهاء اجتماعنا الصباحي. استرعى انتباه أحد أساتذتنا وجود العديد من القنينات الفارغة الملقاة يمنة ويسرة، ما أغاظه كثيرا، واعتبره إساءة لمكان العمل. ألقى علينا محاضرة حول النظافة، الشيء الذي أصابني بالملل والإحراج، ببساطة لأنني لم أكن معنية بالأمر. لكن الحديث أخذ مجرى آخر في اتجاه الخلق الطيب. أذكر جيدا قوله لنا: “مشكلتنا أننا لا نهتم سوى بأنفسنا وأشيائنا الخاصة. هؤلاء الأشخاص الذين تركوا القنينات ملقاة في القاعة، هم أنفسهم الأشخاص الذين يدققون في نظافتهم الشخصية، ونظافة منازلهم وسياراتهم وغيرها. هنا تصبح المسألة قضية أنانية وعدم مبالاة بوجود الآخر. وهذا تماما ما لا أريدكم أن تمثلوه. قد نبدو من زاويتكم كطلبة، أساتذةَ طبٍّ حاملي عِلْم معقد تطمحون لفهمه، في المقابل، نحن نرى فيكم أطباء المستقبل الذين إن مرض أحد من ذوينا في العشرين سنة القادمة، ستصبحون أنتم ملاذنا آنذاك. إذن ففي الحقيقة الموضوع كله تبادل مصالح مع مرور الوقت مراعاة للجانب الأخلاقي. ما نفعله من خير اليوم سيعود لنا أو لأقاربنا غدا. وهذا ما يجب أن تفهموه، عندما نتجرد من أنانيتنا، ونقدم عملا متقنا لأحدهم، فنحن بهذا نقدم خدمة لأنفسنا في المستقبل، قريبا كان أو بعيدا.”

لقد سلب أستاذي عقولنا جميعا بكلامه هذا، لكن الموضوع لم يتوقف هنا، بل ما فاجأني أكثر حمله بعضا من تلك القنينات الفارغة متجها نحو سلة المهملات، أصرت زميلتي أن تقوم هي بذلك من شدة احترامها له. لكنه أجابها، لا بأس سنتعاون جميعا. يومها رُسِم في ذهني ما أريد أن أكون عليه بعد عشرين سنة: أريد أن أصبح أستاذي!

ومن أسف، هذه المواقف المؤثرة نادرة بقدر روعتها. في الوقت الذي لا أستطيع إحصاء المرات التي فارت فيها نفسي من مواقف تعرضت فيها للظلم، ولا أرغب أن أخص بالذكر أحدا أو أخلد أية ذكرى سيئة، بل أفضل أن أوثق كل تلك التجارب السيئة في خلاصات مركزة: خلال موقف حساس بين طرفين غير متكافئي القوة، من الطبيعي أن يأخذ القوي راحته في التصرف، وينكمش الضعيف على نفسه. طبعا للطرف الأول أسباب قوية يكاد لا يرى أمامه من شدة انتفاخها. هو دائما محق حسب تصوره. في المقابل، فإن الطرف الثاني لا يملك من القوة شيئا ليدافع عن موقفه. لذا أيا كان ما يستطيع فعله قد ينقلب ضده. هو غالبا الخاسر. نتيجة هذا، خَلْقُ أناس غير سوية، أحدها متجبر على الأرض وطاغية، ولا شك أن في انتظاره ضربة موجعة ما لم يستيقظ من غفوته، باتباع مبدأ أن الله يمهل ولا يهمل. والآخر إما سيصبح طرفا مغلوبا على أمره، لا حول له ولا قوة، يقبل بالفتات تفاديا للمشاكل وهذا ربما أقل الضررين، أو طرفا ثائرا، يُئوِّل كل شيء بطريقة مسيئة له، يبقى دائما على أهبة الاستعداد للتصدي لأية ضربة حتى تلك التي لم تأته أصلا، وبهذا يصبح خطرا على محيطه.

في المقابل، إذا أخذنا نفس الموقف، بين نفس الطرفين، وركز الطرف الأقوى على الاستماع، وتفهم حالة الطرف الأضعف، وأسبابه، واحتياجاته، وتشجيعه على تصحيح السلوك، وإقناعه بالصحيح هذا إن لم يكن أصلا على قدر من صحة، ثم التوصل إلى نتيجة مشتركة مقنعة للطرفين. فلا شك أننا بهذا سنخلق مجتمعا سويا، أقل ميلا إلى العنف، يروم أكثر للحوار، يعرف حقوقه وواجباته، وتسوده روح المسؤولية. طبعا هذه الأمور أقرب للخيال من الواقع لكنها تبقى فكرة بسيطة قد تغير الكثير. خلال تناقرك مع أخيك الصغير، أو عندما يثير غضبك زميلك في العمل، أو عندما يزعجك صديقك، أو عندما تلاحظ تصرفا خاطئا من طفل ما، تأمل واستمع، وصحح بالحسنى، لكن إياك أن تعرض عضلاتك لمجرد إراحة ضميرك المحق.

تذكر دائما أنك مهما كنت محقا، فإن من واجباتك داخل مجتمعك الدفاع عن الحق ونشره، ولا يمكن أبدا أن يتأتى ذلك عن طريق الظلم. اتق دعوة المظلوم، كونها ليس بينها وبين الله حجاب. تذكر أيضا أنك مهما كنت صغيرا فأنت دائما مسؤول، لأننا كلنا راع وكلنا مسؤول عن رعيته.

وأخيرا لا تنس، أيا من كنت، ومهما بلغت من القوة، كن ابن من شئت واكتسب أدبا، يغنيك محموده عن النسب.

1xbet casino siteleri bahis siteleri