طالما البيوت دافئة بالذكريات فدوام الأنس!

من منا لم يتذكر بيت الأجداد؟ فلكل زاوية هناك ذكرى تحكي قصة، ينبثق صداها اليوم في مسمعنا حنينا وشوقا لها. ومن ينسى الجد شامخ الأنف، ذو اللحية البيضاء، لكأنها ثوب إحرام وصوته العذب فيه مسحة من حنان ومسحة من خشوع، لكأنه أذان الفجر. ومن منا لم يلج به الشوق على خبز الجدة وقصصها الخيالية قبل النوم، وكلماتها الناعمة كأنها كلمات من زبد؟ ناهيك عن السيناريوهات والطرائف الكوميدية بين الجد والجدة.

هكذا هي ليلتي: مستلقية على الأرض أتأمل البدر في السماء، أعد النجوم من حوله وأربط خيوط ذاكرتي لسنين مضت… ما زلت أتذكر الأيام الخوالي وأستأنس بها؛ فهي إرث الأجداد لن أنساه، وأتذكر لقطات من الطفولة في البادية وكأنها البارحة. كانت جدتي في كل صبيحة في فصل الشتاء حيث الأمطار ورائحة المداخن واشتعال الحطب، وقطرات الندى على أوراق الشجر كأنها تمسح آلامها، تقف ملفوفة بشال صوفي محبوك بالحب والحنان، باسمة الثغر، تراقب بين الفينة والأخرى الخبز في الفرن الترابي، تلقي نظرة حانية يكسوها الأمل على الحظيرة لتجلب لنا ما جادت به الدجاجات عليها من بيض، تم تذهب فيما بعد لتحلب حليبا طريا من البقرة في لحظات رحيمة، ولن تنسى طبعا نصيبنا من الزبدة، السمن البلدي، العسل وزيت الزيتون، ثم تذهب بالمؤونة الصباحية لتتراقص على أكفها الكرام، وتطبخ لنا ما تشتهي الأنفس من فطور زكي وشهي، وتجدنا ننتظرها وسط عشب الأجداد بفارغ الصبر، نفترش الأرض ونلتحف السماء، تم نأكل ونشرب على ألحان خوار البقر، صياح الديك وصهيل الخيول الشهمة وننتهي بحمد وشكر رب العالمين.

مقالات مرتبطة

ويأتي الليل الطويل بزينة وبريق نجوم سمائه وخجل غيومه وهي تقبل القمر، وأنا أتلذذ ذوق شاي جدتي الرفيع بلهيبه المتطاير من عنق الكوب مستلقية على جانبها الأيمن بينما أصابعها ترقص وسط خصلات شعري، وهي تروي لي أسطورة “عمي الغول وهاينة”، فيزداد طعم الشاي لذة، إلى أن تصل إلى الحدث المشوق وتختم قولها بـ: “ذهبت حكايتي من واد لواد”.

اليوم انفرطنا كحبات سبحة، البعض وافتهم المنية، والبعض الآخر يصعد في سلم العمر لا محالة إلى حدود يشتعل فيها الرأس شيبا ويأتيه النذير، تم يدرك فجأة أن ما يعشيه اليوم ما هو إلى ذكريات يصنعها ليستأنس بها في الغد، وتمضي الأيام وتأتي الليالي تباعا لا نشعر بها ترافقنا فيها ذكريات لا تموت ومتاهات ينبثق من صداها دهاليز النفس البشرية، حتى ندرك إنما هي إلا اقتراب من موعد نغادر فيه إلى حيث المستقر.