كائن اجتماعي، صديق نفسه أولا

يمضي الإنسان جزءا كبيرا من حياته في محاولات كثيرة لمصاحبة الآخرين والتعرف عليهم. هكذا هي طبيعته البشرية، كائن اجتماعي، يحاول بكل ما أوتي أن لا يبقى وحيدا. تراه يكون صداقات، ويبذل مجهودا كبيرا لتأسيس محيط مهني وأسري، إلى غيرها من أنواع الارتباط بالآخرين. تختلف الأسباب من إنسان لآخر، وكذا عدد العلاقات. فهناك من هو بطبعه منغلق، وفي المقابل هناك من هو منفتح على العالم بسلاسة أكبر. لكن في النهاية ولو اختلفت الشخصيات، فالإنسان بطبعه، يميل إلى الاجتماع ببني جنسه، أكثر من حاجته للانطواء.

عادة، كلما كثرت القواسم المشتركة بين الناس، كلما طالت علاقاتهم أكثر، فترى صديقان لا يجمعهما في الحياة سوى حسهم الفكاهي المتشابه، ربما لا يعرفان الكثير عن بعضهما البعض، لكن صداقتهما مبنية على الأوقات الممتعة التي يمضيانها. ولو جمعهما الجد، لربما نقص الانسجام ولتباعدت الطرق بشكل أسرع.

في المقابل، فإن المواقف هي ما تحدد مدى متانة هذه العلاقات، فكم رأينا أناسا جمعتهم العلاقة لسنوات، أيا كانت طبيعتها، لكنها آلت للانفصال بشكل قاطع. والسبب الأساسي هو اهتراؤها بناء على مواقف خابت فيها التوقعات، وربما لم تطابق التصرفات فيها الأقوال المزعومة. وهو شيء لا ينبغي أن يثير الحزن في النفس مطولا، بقدر ما يجدر به أن يعزز فضولها لفهم ماهية العلاقات من الأصل، بدءا من علاقة الإنسان بنفسه أولا، وصولا إلا مثيلتها مع الآخرين.

كم منا يستطيع أن يصف نفسه بدقة؟ دون تضخم أناه؟ دون محاولة للظهور بأفضل صورة وإيجاد ذرائع لإخفاء مساوئه؟ أدرك يقينا أن الموضوع صعب للغاية، بدءا من نفسي، لأنه يزعزع رؤية الإنسان لشخصه، بينه وبين حاله، وكذا في مواجهته للمجتمع. لكن ما لا يدركه، أن نفس هذا المجتمع هو مرآته، يعكس عليه ما يبدي، فإن ظهر منه الحسن كان ذاك انعكاسه، وإن زل عنه السيء لم يتوانَ في ضربه به في منتصف وجهه. وهنا يتزعزع الإنسان، طبعا حسب قدرته على حماية نفسه من تلك الرؤية المخيفة عنها. هناك من لايصدق أصلا أن ذاك هو انعكاس سوئه، يحاول جاهدا إقناع الآخر بمدى صحة تصرفه. وهناك من له القدرة على التجاهل، لا يفكر كثيرا في الموضوع، فقط يحسب الإيجابيات والسلبيات، ويختار ما يريحه.

في المقابل هناك من ينهار، لا يتقبل بتاتا ما يحدث له، تغلب مشاعره عليه مصعبة إيجاد الحل. وهناك من يتقبل الأمر من البداية، في هدوء ودون مشاكل، محاولا فهم نفسه، مسلما بضعفها، مركزا على البحث عن حل بأقل الخسائر، وربما بأفضل الدروس. وهذه فقط أمثلة قليلة عن ردود الأفعال التي نقوم بها إزاء ما نمر به من مشاكل تعكس أخطاءنا، التي وإن ساد أحدها على طبع الواحد منا، فلا شك أنه يمر من معظمها خلال مراحل حياته.

هناك آية أحبها كثيرا : {وخلق الإنسان ضعيفا}. وصف بسيط للإنسان، يجعل الواحد منا حقا يتأدب في رؤيته لنفسه، ويهدأ في المواقف التي يفاجئه فيها ضعفه، أيا كانت مظاهره، حزن، غضب، سوء، خطأ صغير، وربما أكبر، ألم، قلة مسؤولية، خوف، وحدة، وغيرها من الأوجه الضعيفة للشخصية. هذه الآية تساعد كثيرا في إزالة التكلف بين الإنسان ونفسه. فلا حاجة أن يحتمي بدروعه كلها لمواجهة سوئه، إذا اقتنع في الأساس أنه نتيجة ضعفه، طبعا دون الاغترار والاعتزاز به.

اعتراف الإنسان بضعفه، هو أحد المراحل المهمة في تعرفه على نفسه. لأن من يقبل عيبه، فلا بد أن يحاول جاهدا تصحيحه، مهما طال الزمن. وهذه طبيعة أخرى في الإنسان، بحكم أنه في رغبة مستمرة في التطور، ولو أنه يصعب عليه الانفصال عن سلبياته. فتجد الإنسان الذي لا يتحكم في غضبه، يحدث الآخرين بين الفينة والأخرى عن نوبات غضبه، وهو أمر غير صحي، ولو كان شائعا. لكن الأصوب، هو عندما يجاهد نفسه على ضبطها في تلك اللحظات، وهي مرحلة لا بد أن يصل إليها عاجلا أم آجلا.

أظن أن المجهود الذي يقوم به الإنسان لمصاحبة الآخرين، سيكون محمودا لو قام بمثيله للتعرف على ذاته. لأنه من يستطيع أن يفهمها، سيسهل عليه فهم الآخرين، أو على الأقل التعريف عن نفسه بشكل أبسط، وتحديد ما يريده، وما لا يريد. والعكس صحيح، محاولات الناس في التعرف على الآخرين، هي طريق مواز للتعرف على ذواتهم. لأنه أحيانا من السهل إلقاء الأحكام على الناس ووصفهم كما يبدو لنا عنهم، وهو ما يصعب علينا تجاه أنفسنا كما أشرت سابقا. لكن هذه الأحكام نفسها هي ما تمكننا من وصف أنفسنا بالمحاكاة، سلبا أو إيجابا.

وبهذا، فكما يحاول الإنسان بناء علاقات متينة مع محيطه، لتلبية حاجته في إيجاد الأنس، وجب عليه بناء علاقة أمتن مع نفسه، تلبية لحاجته إلى التطور والنضج، مع تحقيق إيجاد الأنس معها، هكذا يتأتى إنتاج فرد أكثر قابلية للاندماج في المجتمع، محملا بكم أقل من العقد، أو بالأحرى مجهزا بآليات دفاع صادقة، صلبة، وواقعية، تجاه ما قد يصيبه في طريقه. فيصبح فردا مفيدا لنفسه أولا، لمحيطه ثانيا، ولمجتمعه من زاوية أوسع ثالثا. وهذا في نظري هو المنطق السليم لبناء العلاقات، و إنشاء إنسان سليم، يعي مواطن قوته فينميها، ومواطن ضعفه فيعالجها، لتصبح بذلك علاقاته أكثر نضجا، أقل التباسا، وأكثر إفادة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri