لا يهمك من مدح ولا من ذم!

آفة الرغبة في التميّز سخيفة ومملة ومدمرة. فكرة ألا يجمع الإنسان حوله إلا من يساعده على إقناع نفسه بأن وجوده واجب، ومن يمنحه الوهم بالأهمية ويشعره بأن حكايته تستحق أن نصغي إليها باهتمام وبأنه الأفضل، وبأن تلك الفكرة لولا وجوده ما نفعت، وبأنه الشخص المناسب لكل مهمة جليلة، وما شابهها من عبارت يحب البعض سماعها في كل مناسبة، ومع كل تعليق، ويستمر فرحًا بها حتى بعد أن يعود إلى نفسه.

لكن هل فعلا يشعر بأنه وجد نفسه بعد تلك العبارات التي تمنحه القناع الذي يريد؟ هل يجد شخصًا نفسه حقيقة حين تصبح الأقنعة جزءًا من الذات؟

عظيمة فكرة أن نتصالح مع أن وجودنا في واقع الأمر ليس ضروريًا بتلك الدرجة، وأنه لا شيء يتوقف عليه، فكل ما نفعله يمكن الاستغناء عنه لو لم نكن موجودين. حتى من نحب، ومن نُطرِب، ولمن نكتب، ومن ندرب. نحن ظواهر قابلة للاستغناء في أي لحظة!

رائع أن ندرك الحقيقة العارية، بأننا لسنا كائنات واجبة الوجود، وأننا متناهون في الصغر، حتى ولو كنا مبدعين، فأعظم الأعمال سرعان ما ستستقل عنًا وترسم قدرها في غنى تام عن وجودنا العرضي! فالأثر لا يدل على الأصل الذي كان، لا يدل سوى على الأثر!

يبدو في حديثي قسوة ما، حين أواجه أحدهم بتلك الحقيقة، لكني مؤمنة بأن بناء الذات ليس بأن نمارس تمارين خداع الذات، فهذا سيجعلنا ننهار أمام أول هزة فشل أو إخفاق تصيب بناءنا العشوائي.

بناء الذات يبدأ بالاعتراف بأننا لسنا مركزًا، هذا بصدق سيحملنا للعودة إلى الحياة البسيطة، وصناعة أنفسنا من أنفسنا، وليس من الرغبة في النماذج التي نحب أن نرانا عليها، أو من الاستحسان الذي نطلب.

بناء الذات الحقيقية بإدراك الرغبات الأصلية فينا، بأن ندرك أن الفرح والسعادة يأتيان من الإنجاز الحقيقي الذي نفعله بدافع يخصنا وحدنا، لا طمعًا في مدح الجماهير البسيطة، التي تحركها العواطف والغرائز والخطابات الشعبوية التي لا تبني وعيًا ولا إنسانًا ولا حقيقة!
عرفت في حياتي أشخاصًا ليس لهم صفحات على فيس بوك، ولا متابعين يستعرضون أمامهم النجاح والمعاناة والحياة التي يمارسونها، أولئك الأكثر بساطة وجمالاً في التعامل مع العالم بلا عقد وتعقيدات، بلا صور مبهرة في روح فارغة من كل معنى.
عرفت أناسًا عانوا الحروب والموت، خسروا أرواحا كانت منهم قريبة، وفقدوا سنوات العمر في الأسى والغربة والمعاناة! ولم يحدث يومًا أن نطق أحدهم بما لاقى.. ليحظى بآلاف من الـ likes ويسمه الناس بالعظيم، والمناضل، والبطل والصابر. بل صمت وتخفّى ووجهه مبتسم لا يمُن..ولا يتسوّل ثمن تضحيته وما يلاقيه من بشر!

عرفت قصص حبٍ عامرة وخالدة لأناس أشبه بالملائكة،
لا يسمع بهم أحد، الحب المدهش الذي لا تزيده السنوات إلا إزهارا وثباتا، الحب النقي الذي لم يكن يومًا مشاعًا واستعراضًا مبتذلًا للمارّة.
إن الحديث عن الذات باستمرار شيء مقزز ويبعث على الملل، والظن بأنك مخوّل لإصلاح العالم وأنه سيتوقف لو لم تُبد رأيك وتعطي بصمته العظيمة ضرب من الغباء!

في الحقيقة من قال أصلا أنه مطلوب منك أن تُصلح العالم؟ المطلوب فعلا أن تصلح نفسك أنت… أن تكون مشروع ذاتك التي ستسأل عنها وحدك!

بدلاً من أن تستهلك خلاياك في قضايا خاسرة وواقع متعذّر إصلاحه بشكل جمعي، التفت لنفسك وقم بشيء ينفعها، فالعالم لن يتغير ونفسك مضطربة مشوشة وخربة.

بدلاً من أن تنشغل بالآخر وتُحمّل خيبتك لفساد الأنظمة والأوطان، ابحث عن نجاح ولو بسيط لك؛ عن علم تكتسبه، أو رزق تستجلبه، أو واقع حقيقي تمتلئ به، بدلا من الشكوى واللطم وشتم الواقع على صفحات الفيس بوك لساعات بلا جدوى! ثم بعد ذلك تشتكي من الاكتئاب وملل الحياة وقرفها!

بالطبع ياصديقي الحياة المكررة، والبؤس المكرر، والأخبار المكررة، والأشخاص المملين الممتلئين بالهزيمة والتشوه هنا سيجلبون لك الكآبة وتمنى الموت من قرف الواقع.. لكنك إن تحركت وامتلأت واقعيًا بعلاقات حقيقية، عمل وأثر واقعي، نجاح تبحث عنه وتبذل له، ستشعر أنه ما زال في الحياة متسع للراحة مع كل البؤس المحيط بك.

الشجعان يا سيدي يقدمون على الحروب والموت بكل جسارة حتى لو كلفهم ذلك أعمارهم، والجبناء فقط من يخافون فقدان الحياة ويسقطون عند أول محنة!

يا سيدي، الشرّ والحروب والخراب والدمار والموت بلا نهاية، طالما أنت في كوكب الأرض!

المؤسف أن تتقدم بالعمر ولازلت تهذي بالماضي الذي دهس سنوات عمرك دون أن تدري، وتعيش الآن ضحية ذاكرة، ذاكرة مليئة بالوهم.

وختاما، مهما خذلتك الحياة، ومهما ذقت من مر – لا تفقد الثقة بالعالم – فلكي ينفتح قلبك، لا بد أن تثق بالحياة كما يثق بها الأطفال دون شروط!

لا تخف من المجهول ولا من العالم الخارجي، مهما بدا شريرا، تجاوز كل المخاوف، وعالج كل الجراح، وتعلم كيف تكتسب الثقة في العالم، كلما خذلك من جديد!

تنبه في انفتاحك، لكن لا تيأس، تعلم كيف تطور حدسك وقدرتك على التمييز للابتعاد عن موقف ما أو شخص ما، لكن لا تهرب! فالأفراح لا تنمو في الظلام، والتناغم مع العالم والكون والطبيعة وبناء علاقة محترمة مع كل كائن حي على الأرض، ما سيساعدك على التقدم! ولأن الإنسان كي يعيش بشرف، فعليه أن يتمزق بقوة، أن يتضارب، أن يخطئ، وأن يبدأ ويترك، ومن ثم يبدأ، ومن جديد يترك، وعليه أن يناضل دائما ويخسر، فالراحة في الحياة دناوة روحية.

1xbet casino siteleri bahis siteleri