قُرطبة المسلمة أو “جوهرة العالم”

في عام 958م، تم إسقاط سانشو الأول، حاكم مملكة ليون في شمال إسبانيا، من قبل النبلاء المتمردين، وكان دافعهم غريبا في ذلك الوقت: لم يكن الملك قادرا على أداء واجباته الملكية بكرامة، بسبب…سُمنته المفرطة!

سارع أقرباء الملك حينئذ إلى طلب النجدة فتدخلت جدته، الملكة تودا أزنار من مملكة نافارا المسيحية، لطلب المساعدة من مملكة أخرى في جنوب إسبانيا: الخلافة الإسلامية في قرطبة. تقدمت الملكة تودا إلى حاكم قرطبة، الخليفة عبد الرحمن الثالث، بطلبين جريئين: المساعدة في علاج السمنة المرضية لحفيدها والدعم العسكري لاستعادة العرش. وضع الخليفة الطلب الأول في عهدة الطبيب اليهودي بن شبروت الذي وصف للملك الليوني نظاما غذائيا صارما. وبمجرد أن فقد سانشو الوزن بما يكفي ليتمكن من ركوب الخيل بشكل لائق وصحيح، استعاد تاجه المفقود بمساعدة القوات المسلمة.

كانت إسبانيا الإسلامية في أواخر العصور الوسطى تمر بفترة من التطور العلمي والإشعاع الثقافي في جميع المجالات بما فيها الطب. بحلول القرن العاشر ميلادي، اعتُبرت قرطبة أكبر مدينة في أوروبا وأكثرها إشعاعا من الناحية العلمية والثقافية والحضارية حتى لُقبت “جوهرة العالم”. كانت قرطبة تشع نورا وعلما وماء عذبا: فوانيس تنير الدروب، مياه جارية لنصف مليون من سكانها، 300 حمام عام، نظام فلاحة وري مُبتكر، هندسة معمارية مُبهرة، مستشفى تعليمي وجامعة، ريادة في الفلسفة والطب والفيزياء والرياضيات والفلك…كانت كل هذه المعالم الحضارية تبدو كحلم اليقظة بالنسبة لأوروبا القرون الوسطى!

أصبح التعليم العالي على سبيل المثال منظمًا بشكل متزايد، وذلك منذ أوائل القرن التاسع الميلادي، وكانت المدن الإسلامية الرئيسية تتميز بما يمكن تسميته الآن بالجامعات. في مجال الطب، كانت المؤسسة التعليمية الإسلامية البارزة هي المستشفى التعليمي، الذي بُني نموذجه الأول في دمشق بداية القرن الثامن الميلادي ثم تم تعميمه على مدن أخرى كبغداد والقاهرة ليُصبح السمة البارزة لمُدن إسبانيا المسلمة. هذا النظام كان يدمج الدراسة في المسجد مع الممارسة في المستشفى. فقد كان على الطلاب اتباع مقرر تعليمي أساسي (الجوانب النظرية في الطب، والفلسفة، والفقه…) ثم إكمال التدريب الطبي في المستشفى بإشراف أبرز الأطباء، وتقديم أطروحة ومن تم تتويج هذا المسار بشهادة تسمح للطبيب الجديد بالممارسة.

ابن جُلجُل، ابن شبروت، الزهراوي، ابن رشد وغيرهم، كلها أسماء وازنة أنارت قرطبة بفضل أعمالهم جميع العالم، وكانوا بحق لبنات أساسية في إرساء الطب المعاصر. تمتع الأطباء في قرطبة وغيرها من الأقطار الإسلامية باحترام كبير، في حين كانت أوروبا والعالم المسيحي يرزحان تحت براثن الجهل والتخلف. كان يُنظر إلى المرض في أوروبا كعقاب إلهي لذنوب الإنسان، وليس كحالة يمكن معالجتها أو التخفيف منها من خلال التدخل البشري، حتى أن الجهود التجريبية، واعتماد الوسائل الجديدة والاكتشافات الطبية التي بدأت تتدفق ببطء من العالم الإسلامي كانت تُقابل بالرفض.

مقالات مرتبطة

يحكي أسامة بن منقذ، وهو أحد قادة صلاح الدين الأيوبي إبان الحروب الصليبية (وسفيره إلى بلاد المغرب لطلب العون من يعقوب المنصور الموحدي) في كتابه “الاعتبار” قصة مُضحكة حول طبيب مسلم جيء به لعلاج فارس مسيحي قد أصابه تعفن بسيط في ساقه، وامرأة مسيحية تعاني من حمى. بعد أن بدأ الطبيب في علاجهما بما عُرف من التطبيب آنذاك، جاء طبيب نصراني يُقال له ثابت فأنكر على الطبيب المسلم وأمره بالتنحي جانبا وقال للفارس:

“إما ان تعيش برجل واحدة أو تموت برجلين. قال: أعيش برجل واحدة. قال: أحضروا لي فارساً قوياً وفأساً قاطعاً. حضر الفارس والفأس وأنا حاضر، فحط ساقه على قرمة خشب وقال للفارس: اضرب رجله بالفأس ضرباً واحداً واقطعها. فضربه فما انقطعت، فضربه ضربة ثانية فسال مخ الساق، ومات من ساعته. وأبصر المرأة فقال هذه المرأة في رأسها شيطان، احلقوا شعرها، فأخذ الموس وشق في الرأس صليبا وسلخ وسطه حتى ظهر عظم الرأس وحكه بالملح، فماتت من وقتها.”

قال الطبيب المسلم:

هل بقي لكم إلي حاجة؟ قالوا لا. فجئت وتعلمت من طبهم ما لم أكن أعرفه!

1xbet casino siteleri bahis siteleri