لماذا سحرت ماري كوندو بترتيبها ملايين البشر؟

ماري كوندو، تلك اليابانية التي بدأت الاهتمام بالترتيب منذ سن الخامسة، هوسها بالترتيب جعلها تفرز وتصنف وتنظم وتعيد ذلك مرات ومرات، تبحث في الكتب ومجلات التدبير المنزلي وتطبق جل النصائح حول الترتيب، تجرب هذه الطريقة وتلك إلى أن خلصت إلى طريقتها الخاصة التي أطلقت عليها اسم كونماري، فأصبح يعتمدها الملايين من الناس حول العالم…عشقها للترتيب جعلها تخلق منه موضوعا يناقش على المستوى العالمي، وتبتكر مهنة جديدة لم يكن لها وجود من قبل، حيث بدأت تشتغل كخبيرة في الترتيب منذ سن التاسعة عشر وهي لم تكمل دراستها بعد، وتؤلف كتبا حول الموضوع أشهرها كتاب “سحر الترتيب” الذي يعد من الكتب الأكثر مبيعا حول العالم، وتصنف من بين 100 شخصية الأكثر تأثيرا في العالم، وتقدم برامج تلفزية آخرها برنامج من تلفزيون الواقع “الترتيب مع ماري كوندو” من إنتاج منصة نيتفلكس.

قد يبدو موضوع ترتيب البيت أمرا لا يستحق كل هذا الاهتمام، ولا يتطلب قراءة كتاب أو اتباع طريقة معينة، وبالأحرى الاستعانة بخبير في الميدان، فلكل طريقته في الترتيب اكتسبها من خلال تربيته وتجربته في الحياة، وينظم بيته بشكل مستمر على الشكل الذي يريحه ويناسبهإ، لا أن ماري كوندو استطاعت أن تخرج مفهوم الترتيب من حيزه الضيق المنحصر في التنظيف والترتيب اليومي أو الموسمي للأغراض إلى معنى أعمق يشمل ترتيب الحياة بشكل عام، حيث تعتبر أن الفوضى الخارجية التي نعيش فيها تعكس بالتأكيد اضطرابا داخليا لا نستطيع رؤيته، وعندما نقوم بالترتيب الخارجي يمكننا التركيز على الفوضى الداخلية وترتيب حياتنا من جديد. وعلى الرغم من كون طريقتها تقدم الكثير من النصائح العملية سواء في عملية الفرز أو طي الملابس وتوضيب الأغراض وكيفية تصفيفها، إلا أنها تولي أهمية كبيرة لأثر ذلك على التنمية الذاتية وانعكاسه الإيجابي على الجانب النفسي.

لا يكتسب الترتيب بالنسبة لماري كوندو بشكل تلقائي وإنما يحتاج للتعلم والتدريب ليكون ذا فعالية، حتى لا نقع في فخ التخزين فتصبح بيوتنا عبارة عن مخازن لأشياء لا تشكل أي قيمة إضافية في حياتنا، وتحرمنا بذلك من العيش في فضاء مريح. ولهذا، فإن أول خطوة تنصح بالبدء بها تكمن في تخيل الحياة التي تود أن تعيشها، تخيل البيت بتفاصيله، كيف ستتجول فيه، كيف ستمضي يومك بين جدرانه، أين تحب أن تجلس وأين تريد أن تقرأ وأين ستستمتع بممارسة هوايتك…هذه الخطوة ستساعدك على توضيح غايتك ومناك وستزيد من حماسك للإقبال على الخطوات الموالية. ثم تشرع بعدها في الترتيب باعتماد مبدأين أساسين وهما: التخلص من الأشياء التي لا تشعرك بالفرح أولا، ثم تخصيص مكان محدد لكل غرض تقرر الاحتفاظ به. وتشترط في ذلك أن يتم الترتيب حسب الصنف وليس حسب المكان أو الغرفة، فتبدأ بالملابس، ثم الكتب، ثم الأوراق، ثم لوازم المطبخ والحمام وما إلى ذلك من الأغراض المتفرقة إلى أن تصل إلى الأغراض العاطفية التي تعد الأصعب في ما يخص اتخاذ قرار “الرمي” بشأنها. هذه الطريقة تجعلك ترتب كل صنف بشكل فعال ونهائي فلا تعود له الفوضى مجددا.

لم تمنعها ثقافتها الأسيوية ولا عدم إتقانها اللغة الانجليزية من اقتحام البيوت الأمريكية وإعادة البهجة لبيوت أنهكها العيش في الفوضى، لتساعد أصحابها بخبرتها على رحلة التحول نحو حياة أكثر هناء. تدخل البيت بلباس أنيق لا يتناسب والمهمة التي ستقبل عليها والفوضى التي ستغوص فيها كما قد يبدو للمشاهد، ولكنها تحرص على ذلك احتراما للبيت والأغراض التي يشملها، تفتتح عملها بطقوسها في إلقاء التحية على البيت والتحدث إليه، ثم تقوم بزيارة تفقدية لأنحاء البيت لمعاينة كم الأغراض التي يحوزها، وبكل الهدوء والصفاء الممكن تشرع مع أصحاب البيت في ترتيب الأغراض صنفا بعد صنف. عندما يقدم زبناؤها على إفراغ خزاناتهم من الملابس أو الكتب أو غيرها من الممتلكات، يفاجؤون بالكم الهائل للأغراض التي يحوزونها، ومنهم من تغلبه الدموع من هول المشهد وكم الذكريات والأغراض التي راكمها على مر السنين عندما يبسطها أمامه.

تجعلك ماري كوندو تغير نظرتك للأغراض التي بحوزتك، وتعينك على التخلص من أشياء كثيرة لم تكن لتجرؤ يوما على “رميها”، فعدد من ممتلكاتك قد أدت دورها في حياتك وحان وقت وداعها بالرغم من قيمتها المادية بل وحتى المعنوية. فربما حان وقت التخلص من تلك البذلة الثمينة التي لم تلبسها قط، فقد أدت دورها لتخبرك أنها لا تناسبك، وجاء الوقت لتدرك أن ذلك الكتاب القيم الذي شرعت في قراءته ولم تنهه منذ زمن، كان نصيبك منه ذلك الجزء الذي قرأت، فقيمة الكتب حسب خبيرة الترتيب تكمن في محتواها الذي يصير في مكان ما بداخلك عندما تقرؤه، ولا قيمة للكتاب إذا بقي موضوعا على الرفوف فقط، وإذا لم يعد الكتاب يثير اهتمامك وفضولك لقراءته في اللحظة الآن فلا داعي للاحتفاظ به، بل إن أفضل وقت لقراءة كتاب ما هو عندما تصادفه وتحس برغبة في قراءته.

ستقنعك برمي دلائل استعمال الآلات وإشعارات الحساب البنكي وملفات المؤتمرات والعديد من الأشياء التي احتفظت بها فقط لأنك قد تحتاجها يوما ما، ستخبرك أن الهدية التي تلقيتها من صديق عزيز أدت دورها لتخبرك أنه يحبك ويهتم بك، ولست مطالبا بالاحتفاظ بها إذا لم تكن تحبها. فلا يجدر بنا تعظيم الذكريات، وإنما الأشخاص الذين صرنا عليها بفضل تلك التجارب والذكريات.

توصي ماري كوندو بالقيام بعملية الفرز في جو من الهدوء والسكينة، كونك مقبلا على حوار مع الذات، تحمل خلاله كل قطعة على حدة، تلمسها وتتمعنها لاستحضار الشعور الذي تبثه فيك، فإن كان فرحا احتفظت بها وإن لم يكن كذلك شكرتها على ما قدمته ووضعتها جانبا للتخلص منها بكل امتنان. وهي بذلك تحفزك على التحرر من تأنيب الضمير الذي قد يلاحقك عند التخلص من الأشياء التي لا تحبها، فأنت بتخلصك منها تحررها من السجن الذي وضعتها فيه لسنين. وبعد أن تتخلص من كل ذلك، ستتمكن من الاستمتاع بما حولك من أشياء، فحيثما وليت وجهك داخل بيتك إلا ووقع طرفك على ما يشعرك بالفرح ويزيدك طاقة إيجابية. فالمساحة التي نعيش فيها يجب أن تكون للشخص الذي أصبحنا عليه الآن وليس للشخص الذي كنا عليه في الماضي.

هذه العملية كفيلة بأن تغير حياتك بشكل جذري، فعندما تترك حولك الأغراض التي تحبها فقط، لن يمكنك ذلك من الشعور بالراحة فقط، وإنما ستكتشف ما تحب القيام به فعلا وستكشف عن شغفك الذي كان تائها بين الأغراض التي لا تعني لك شيئا. فالكتب التي ستحتفظ بها ستعكس ميولاتك الحقيقية، والأغراض التي ستبقيها ستساعدك على اكتشاف هواياتك، والملابس التي تحبها ستعكس شخصيتك، والأشياء العاطفية التي ستحتفظ بها ستقربك من الأشخاص اللذين تحبهم والأماكن التي ترتاح فيها والذكريات التي تشتاق إليها. ستغوص في أعماق ذاتك، تسألها عن أسلوب العيش الذي تطمح إليه، ما تحب وما تكره، ما يسعدها حقا، ستكتشفها من جديد.

القيام بعملية الفرز على مئات إن لم نقل آلاف الأشياء من ملابس وكتب وأوراق وإلكترونيات وأدوات، واتخاذ قرار الاحتفاظ من عدمه بكل غرض منها مهما صغر أو كبر، دبوسا كان أو لحافا، من شأنه أن يصقل مهاراتك في اتخاذ القرارات ليصبح أمر الاختيار بعد ذلك يتم بشكل طبيعي. فكم من الجهد يهدر يوميا عند الكثيرين وكم من الحيرة يعيشونها من أجل اتخاذ قرارات في حياتهم اليومية في ظل الخيارات الكثيرة التي أصبحت متاحة، ابتداء من اختيار الملابس في الصباح إلى العزم على إنشاء مشروع أو البحث عن سكن جديد. فرز أغراضك سيساعدك على اكتساب مهارة في اتخاذ القرار تغنيك ذلك الجهد وتلك الحيرة في حياتك اليومية، وتعينك على اتخاذ القرارات الأنسب في حياتك المستقبلية.

مواجهة ممتلكاتك تجبرك على مواجهة عيوبك وإخفاقاتك في اختياراتك، من قبيل اقتناء جهاز باهض الثمن لم تستعمله قط، أو عجزك عن قراءة الكتب التي تحتفظ بها لسنوات على أمل الرجوع إليها يوما ما، ستذكرك بعض الأوراق بالمشاريع التي خططت لها ولم تفلح في تحقيقها، وقد تقلب عليك الصور مواجع علاقات بأشخاص لم يستحقوا ثقتك واهتمامك…من الطبيعي أن تكون هذه المواجهة ثقيلة على النفس، ولكن ذلك يعد تمرينا جيدا للاعتراف بالإخفاقات التي عرفتها وتقبلها كتجربة عشتها واستفدت منها، وسيساعدك ذلك على تصحيح مسارك في الاتجاه الأقوم.

الترتيب يخفض من التوتر، فبعد الانتهاء من الفرز تبدأ عملية الترتيب بتحديد مكان محدد لكل غرض، مع ضرورة تجميع الأغراض من نفس الصنف في نفس المكان. هذا الأمر سيسهل عملية البحث عن أي شيء تريده، فتتوجه لمكانه مباشرة، لن تتيه بين الغرف ولن تقلب الأدراج، ولن تحتاج للمساعدة في عملية البحث، ولن تضطر لتصفح عشرات الأوراق التي لا قيمة لها لتعثر على الوثيقة التي تحتاج، ولا أن تجرب عدة أقلام قبل أن تقع على القلم المناسب، ولن تحيري في اختيار الحقيبة المناسبة، فالخيارات ستصبح محدودة ومكان الأغراض محددا. وهذه أمور لا يستهان بها في التخفيف من التوتر في الحياة اليومية، والفرق الناجم عن ذلك كبير جدا.

لا شك أن تزامن إصدار كتاب ماري كوندو مع الانتشار الذي عرفته فكرة المينيماليزم أو العيش البسيط التي تدعو لتبسيط الحياة والتقليل من الاستهلاك، وكذا الاهتمام المتزايد بالحفاظ على البيئة في العديد من المناطق حول العالم، ساعد على الترويج لفكرتها، حيث يمكن اعتبار طريقتها مكملة لفكرة المينيماليزم، كونها تشجع على التخلص من عدد كبير من الأغراض المكدسة في البيوت وتدفعك إلى التفكير مليا قبل الإقدام على اقتناء أي غرض جديد بعد الجهد الكبير الذي ستفنيه في الفرز والترتيب، مما يساهم ضمنيا في التقليل من الاستهلاك والحفاظ على البيئة.

قد ينتابك شعور بأن اهتمام ماري كوندو بالترتيب مبالغ فيه لدرجة الهوس، قد تجد معيار الشعور بالفرح الذي تعتمده في اختيار ما يجب الاحتفاظ به غير عقلاني، قد لا تتفق مع نظرتها للكتب، قد لا تروقك طريقتها في طي الملابس في الأدراج والعلب، قد يثير استغرابك حديثها عن ضرورة التعامل مع الجوارب باحترام وتقدير المجهود الذي تبذله من أجلك وأنها تحتاح للراحة في دولابك، قد تستغرب لربطها بين الترتيب وفقدان الوزن وشد العضلات وصفاء البشرة ونعومتها…ولكن الأكيد أن اعتماد طريقتها ساعد الكثيرين على بدء حياة جديدة، واكتساب الثقة في أنفسهم بكونهم قادرين على إعادة ترتيب حياتهم من جديد، وأن طريقتها في الترتيب صارت ظاهرة ثقافية وأسلوب عيش يتبناه الملايين. ولا ضير في خوض التجربة، ولو بتصرف، ومحاولة ترتيب حياتك من جديد ولن يعود عليك الأمر إلا بالنفع.

1xbet casino siteleri bahis siteleri