كي نجعل حجرنا صحيا

نعيش اليوم وضعا استثنائيا لم نألفه ولم نعشه من قبل بل وحتى لم يخطر ببالنا في يوم من الأيام، من كان يظن أن يأتي عليه يوم يحرم فيه الخروج من البيت، ويصبح أقصى ما يتمناه أن يتجول في أزقة الحي أو يزور جاره أو يقتني حليبا من البقالة. من كان يتوقع أن يأتي يوم تضحي فيه البلدان باقتصادها فيصبح في ذيل قائمة أولوياتها. من كان يتصور أن يفعل مخلوق متناهي الصغر ما فعل في أقوى البلدان، ويفتك بها فتكا. لن أتحدث عن الفيروس وما خلفه وما سيخلفه من أرواح، ولا عن الأرقام والإحصائيات، ولا عن سبل الوقاية والعلاج. فلا أنا أهل لذلك، ولا هو مما ندر الحديث حوله حتى أدلي بدلوي فيه. وددت هنا أن أتكلم عن الحياة في زمن الكورونا، عن أيامنا في ظل الحجر الصحي، عن الجانب المشرق -إن صح التعبير- في المحنة التي نمر منها.

هو حظر فرض علينا ونحن فيه راغبون بغية الحد من انتشار الفيروس، وإنقاذ أرواح أنفسنا وأهالينا. لكنه في الواقع صعب على النفوس التي اعتادت الحرية في تجوالها، والتمتع في مأكلها وملبسها، والتهاون في صحتها ونظافتها، والهروب من بيوتها وعائلاتها. قلق وخوف وهلع ينتابنا، فنكتئب تارة، ونتضرع لله تارة، ثم نحاول أن ننسى ونتعايش مع الوضع. وضع صعب لكنه يخفي في طياته دروسا وعبر وتجربة حياتية من شأنها أن تطور من شخصيتنا إن نحن استطعنا استثمارها بشكل إيجابي. ولو ركزنا وشغلنا أنفسنا في هذه الفترة ببعض الأمور الإيجابية التي سأذكرها في هذا المقال، سنتمكن من صرف الانتباه عن المنغصات والسلبيات، ونخرج من هذه التجربة بتغييرات عديدة على مستوى شخصياتنا وقناعاتنا.

الحجر الصحي سيقربنا أكثر من نمط العيش البسيط، الذي يرتكز على التقليل من المقتنيات والاكتفاء بأقل الأشياء، فانقطاعنا عن الأسواق وخروجنا للضرورة لشراء المواد الأساسية، وتراجع الإشهارات وعروض الخصم، سيعلمنا أن الحياة تستمر إن لم نقتن المزيد، وأن استهلاك عدد من الأشياء التي كنا نحسبها ضرورية كان ترفا، وأن قضاء الأوقات الطويلة في المراكز التجارية والمطاعم والملاهي كان فخا أوقعنا في نمط استهلاكي فصرنا ندور في دوامة اشتغل كي تكسب ثم تستهلك، وقد جاء الوقت للوعي بذلك والعزم على التحرر منه بعد أن جربنا التقليل من الاستهلاك، والعيش بالكافي من الأشياء.

إغلاق المقاهي والمطاعم والالتزام بالمكوث في البيت إلا من اضطر للخروج، بالإضافة إلى التوجيهات باعتماد نظام أكل صحي بهدف تقوية المناعة، جعلنا نلجأ لإعداد الطعام في البيوت، ومراعاة المكونات الصحية من خضر وفواكه وحبوب والإكثار من شرب الماء، والتقليل من السكريات، وودعنا الوجبات السريعة وأكل المطاعم المشكوك في نظافته ومكوناته وكيفية إعداده. كما جعلنا نراجع معايير النظافة، بالحرص أكثر على نظافة البدن والبيت والأشياء من حولنا، ونزع الحذاء عند مدخل البيت… كلها أمور يجب أن نحرص أن نجعلها عادات يومية. فهذه فرصة لتطهير أجسامنا من السموم وتعويدها على نظام صحي ينفعنا لمقاومة المرض خلال هذه الفترة واكتساب صحة جيدة مستقبلا.

سيعلمنا الحجر الاستقلالية الحياتية، فنصير أكثر اعتمادا على أنفسنا. فمع تعذر انتقال مساعدات البيوت وعاملي الصيانة، وإغلاق عدد من المحلات التي تقدم بعض الخدمات من كي وخياطة…وتجنب اقتناء الأكل الجاهز، أصبح الناس يعتمدون على أنفسهم في نظافة وترتيب البيت وتصبين وكي الملابس، وعجن الخبز وإعداد الطعام وإصلاح ما يمكن إصلاحه…ومن المؤكد أن الذين لم يتعودوا على القيام بهذه المهام بأنفسهم سيجدون في ذلك مشقة في بادئ الأمر، ولكنها فرصة كي يتعلم جميع أفراد الأسرة المهارات الحياتية الضرورية لتحقيق الاستقلالية الحياتية، ذكورا وإناثا، كبارا وصغارا.

التزام البيت جمَّع الأسر التي كانت تلتقي ساعات محدودة من اليوم، وتكاد لا تجتمع على مائدة طعام، لتقضي معا أسابيع طوالا، فعادت الحياة للبيوت، بحبها وخلافاتها، بفرحها وضجيجها، بنشاطها وتعبها…قضاء كل هذا الوقت معا، داخل مساحات صغيرة، وبوجود اهتمامات وأنماط عيش مختلفة، بالإضافة إلى القلق والتوتر الذي يتسبب فيه الوضع، قد يخلق نوعا من عدم الراحة وظهور تشنجات وخلافات بين أفراد الأسرة الواحدة، لكننا إذا استثمرناه إيجابيا وقررنا التعاون على اجتياز الأزمة معا، فسيفضي إلى نوع من الاتحاد والتعايش الأسري في نهاية المطاف، ويعزز لدينا القدرة على تقبل الآخر واحترام اختلافه، ويعلمنا فن إدارة الخلافات شيئا فشيئا، إلى أن نصل إلى درجة الأنس والاستمتاع باللمة العائلية.

إن الحجر وفر على الكثيرين عناء التنقل والتوتر الذي تسببه المواصلات والازدحام الذي تعرفه بعض الأماكن، وأصبحوا يقضون أوقاتا أكثر في بيوتهم ومع ذواتهم بعيدا عن الضجيج والاكتضاض ومخالطة الناس، خاصة إذا كانوا متحررين من المسؤوليات العائلية، ويمكنهم بذلك القيام بخلوة مع الذات قد لا تتاح لهم بعد هذا طوال حياتهم، ويمكن هنا الاستئناس بتجربة أحمد الشقيري في كتابه “الأربعون” التي قضى فيها أربعين يوما من العزلة استطاع خلالها أن يحاور نفسه ويفهمها ويراجعها ويرتقي بها… العزلة عن الناس وعن التكنولوجيا إلا للضرورة القصوى والجلوس مع الذات فيه خير على مستوى الصحة الجسدية والنفسية وبناء الشخصية. تقييم للماضي وتخطيط للمستقبل، مواجهة للعيوب وتهذيب للنفس،
ذكر لله وقراءة كتب…كلها أشياء ستجعلك تخرج من هذه التجربة بنفس جديد وعزم رشيد.

المدة الزمنية التي أتيحت لعدد كبير منا للمكوث في البيت، فرصة لا تعوض للقيام بترتيب للمنزل، لا أقصد هنا الترتيب اليومي وأشغال التنظيف والتوضيب، ولكن المقصود ذلك الترتيب العميق الذي يجعلك تعيد ترتيب حياتك من جديد. ولا أجد أفضل مرجع من اليابانية ماري كوندو التي أبدعت طريقة خاصة في الترتيب سمتها كونماري، والتي ألفت حولها كتبا أشهرها “سحر الترتيب”، وتسجل برنامجا تلفزيا يزيد المشاهد تقريبا من طريقتها التي تعتمد أولا على مبدأ التخلص من الأشياء الزائدة وما أكثرها في بيوتنا، من ملابس وكتب وأوراق وأواني وديكور…ومن ثم ترتيبها بطريقة فعالة تقضي على الفوضى بشكل نهائي وتفتح لك المجال لتركز على الفوضى الداخلية وتضبط حياتك من جديد.

خلال الحجر يمكن صقل المواهب وتطوير المكاسب، هي فرصة لممارسة الهوايات والترويح عن النفس في ظل أخبار المرضى والأموات، من كانت له هواية فليمارسها وليطورها بصقل ما يعلم منها وتعلم ما يجهل، وما أكثر الدروس والفيديواهات على الويب في جميع المجالات، كما أن عددا من الدورات والدروس أصبحت مجانية خلال هذه الفترة. ومن لم تكن له هواية فليجرب أشياء جديدة عله يجد فيها راحته ومناه. الانغماس في أمر تحبه والإبداع فيه، سواء كان قراءة كتب أو رياضة أو طبخا أو فنا أو عملا يدويا من شأنه أن يقلل من القلق والتوتر، وقد يكون فرصة لإيقاظ الشغف المنسي في دوامة الحياة، ولم لا إعادة التفكير في مجرى الحياة مستقبلا إلى جانب هذا الشغف.

وختاما، هي فرصة للتغيير سواء لمن بقي في الحجر أو من اضطر إلى الخروج خاصة من هم في بؤرة الجائحة يحاولون مقاومتها وصدها عن الانتشار، فلهم منا واجب الشكر والدعاء أن يحفظهم الله ويرعاهم. فرصة لإعادة ترتيب أوراقنا، ومراجعة أنفسنا من أجل إعادة بناء مجتمع مسؤول كما وصفه رسول الله ﷺ: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.))

1xbet casino siteleri bahis siteleri