النفس البشرية: صراع الماهية والرغبة

تتسارع السنوات ونجد أنفسنا قد بلغنا عمرا حسبناه لفترة قليلة ماضية لا يزال بالبعيد، ها نحن ذا قد قطعنا شوطا مهما من حياتنا لا نعلم إن كان لنا في القدر مثله، ضعفه أو حتى ربعه، عمر قضيناه ونحن نرسم أحلاما وطرقا منها ما سلكناه بالفعل، ومنها ما تركناه لنشد الرحال نحو مغامرة جديدة نسلك بها طرقا أخرى لم تكن بالحسبان، ولم نعلم لها بداية أو نهاية، فوجدنا أنفسنا في مجالات غير تلك التي رغبنا بها ومع أناس ما حسبنا يوما أن مفترقات الحياة ستوصلنا إلى نقطة التلاقي، نقطة أوقفتنا لبرهة كي نعيد النظر في أمور شتى لها علاقة بمن نحن، وما نرغب به.

ولعل الإجابة عن سؤال ماهيتنا أو من نكون، قد يبدو للوهلة الأولى سؤالا بسيطا هينا يمكن للكل الإجابة عنه، لكنه يحمل في جعبته مجموعة من التساؤلات الفرعية التي تتطلب حقا التفكير المعمق، فالإجابة السطحية عن هذا التساؤل قد تكمن في اسمك، عمرك، نسبك أو انتمائك، لكن الإجابة الفعلية أبعد من ذلك بكثير، فمنها ما هو قرين بما يطفو على السطح ويظهر للعلن في شكل تصرفات مدروسة بعناية، مشاعر نبيلة، وردود فعل محتسبة، لكن الجانب الأكبر والأهم هو ذلك الجانب الخفي منا، والذي لا يعلم أحد عنه شيئا، والذي يظهر في فترة الخلوة أو جلسة مصارحة للذات، حيث نزيل كل الأقنعة التي صنعناها على مر السنين، والتي تكون الظروف الحياتية سببا في اعتمادها وإنشائها من الأساس، لنصل بعدها لذلك الوشاح الذي يغطي عيوبنا التي نسترها ونخشى إظهارها للعالم، سواء كانت أخطاء ماض أو ندبات خلفتها معارك طفولة أقحمنا بها كدرع حصين للآخرين.

هذا الوشاح الذي يخاف الكثير منا الاقتراب منه أو حتى لمسه، يتطلب منا جرأة وشجاعة كبرى لإزالته، إذ تقبع أسفله ذاتنا الحقيقية بكل ما لها من إيجابيات وسلبيات، ومجرد الغوص فيها قد يجعلنا نلامس نقاط ضعف وهواجس نهابها، ونخشى مصارحة أنفسنا بها، والوقوف عند فكرة أن تلك الجروح الدامية لسنوات تحتاج إلى تقطيب، وتلك الأمراض الخفية تحتاج إلى علاج وتطعيم، علاج قد يتطلب منا سنوات عمل مكثف والتخلي في بعض الأحيان عن أشخاص وعلاقات لم يعد التواجد بها يضفي على أرواحنا سلاما تحتاجه، ولعلنا أحوج إليه اليوم عن باقي الأوقات التي قد خلت.

مقالات مرتبطة

أنا وأبي

الضياع ..

ومن المؤكد أن هذه الجرأة تحتاج إيمانا قويا بضرورة التغيير والتطوير، فكل ما هو ثابت يضعف ويتهاوى مع مرور الوقت، بينما كل ما هو متجدد ومحين يعتبر أكثر صمودا واستقرارا، لكن قد يكون هناك عامل خارجي آخر من المرجح أن يؤثر في مجريات هذه الأحداث ويقف عائقا أمام تحقيق هذه الغاية، والذي أقصد به الخوف من نظرة الآخرين وانطباعهم العام حولنا، والذي قد لا يتماشى مع تطلعاتنا والذي قد يعتبره البعض نوعا من الأنانية وحب الذات المبالغ فيه، وذلك في حالة عدم انصياعنا لهم ولأفكارهم، وجعل سلامنا النفسي أولوية وغاية نريد تحقيقها رغما عن أنف الجميع، وبالتالي وجب التحلي ببعض من المسؤولية تجاه أنفسنا، فمن غيرنا قادر على أحداث التغيير الذي نرغب به؟ لا أحد.

أما فيما يخص الجانب المتعلق بما نرغب به، فمن الواضح أنه يختلف من واحد لآخر، وذلك حسب مكتسبات كل واحد منهم، إذ لا يمكننا أن نقارب بين اثنين اختلفت وتنافرت الظروف الاجتماعية التي يعيشان بها، فقد تكون طموحات ورغبات الأول واقعا يعاش بالنسبة للثاني، وقد تكون طموحات هذا الأخير ضربا من الخيال ونعيما يصادف فقط في جنان الخلد لدى الأول، هذا التضاد والتباين الحاصل في سقف الغايات والرغبات عرف في الآونة الأخيرة نوعا من الاختلاف والاختلال، خاصة مع تواجد مواقع التواصل الاجتماعي التي أخذت بالبشرية منعطفا آخر، يغلب عليه طابع المثالية في جميع جوانب الحياة، وكأن الحياة الحقيقية هي فعلا ما ينشر وتلك هي صبغتها الحقيقية، في حين أن ما يعيشه الآخرون يوميا هو بمثابة جحيم فوق الأرض، وهذا أمر لا يمت للواقع بصلة.

ومن أسف، هناك مجموعة من الناس خاصة الجيل الناشئ أصبحوا يتأثرون بها بشكل لا يوصف، حيث قامت الصور والفيديوهات المنشورة الملأى بمعالم الرفاهية والراحة النفسية، بإكسابهم فكرة أن كل شيء متاح ومباح، وليس هنالك أي ضرورة للجد والاجتهاد لتحقيق الغايات، فكل ما كان يتعب لأجله سابقا أصبح اليوم تحصيل حاصل فقط بكبسة زر، فأصبحنا نشاهد نسخا بشرية تغزو مواقع التواصل البشري، نسخا فقدت امتيازها وخصوصيتها وأصبحت كغيرها بدون هوية. نعم، إنها نفس الكلمات، التصرفات، الهوايات، وغيرها كثير، نسخ لا تعد ولا تحصى، ولا رابط بينها وبين الواقع.

وهذا ما سيحيلنا أيضا إلى فكرة أخرى متعلقة بتطور وتغير الرغبات لدى الشخص الواحد، والتي سنخص بالذكر خلالها عملية التغيير الرهينة بمحطات حياته ومستويات نضجه، فرغبات الطفل مخالفة لرغبات وطموحات المراهق أو الشاب الناضج أو حتى ذلك الشيخ الذي اكتسح الشيب رأسه، فالطفل منذ يومه الأول تعتبر أهم انتصاراته الحصول على معدة ممتلئة وغفوة مطولة صباحا، ليلاعب نوم والديه المتعبين ليلا، أما المراهق فتكمن أهم رغباته في الانتفاض، كسر القواعد والقوانين، والاقتراب لاكتشاف كل ما هو محظور، إنها متعة تدفق الأدرينالين بجسده، أما الشاب الناضج، فلعله أقل مخاطرة في هذه المرحلة العمرية، حيث يعتمد بشكل أساسي على تحليله المنطقي والمعقول وبالتالي تصبح طموحاته أهدافا قابلة للتحقيق، يترصدها ويسخر كل حواسه لجعلها واقعا يعاش، وذلك عوض اختيار تطلعات بعيدة المنال وحبيسة رفوف المخيلة، وفيما يخص المرحلة العمرية الأخيرة فأجزم أنها تكتسب هيبة كبرى ليست كقريناتها، فهي المرحلة التي تتلاشى فيها مجموعة من الرغبات وكأنها سراب عابر، إذ لم تعد لها الأولوية كما كانت عليه سابقا، وقتها فقط سنعي صدقا رغباتنا الحقيقية، والتي نأمل وقتها ألا نكون قد استهلكناها سابقا في أشياء ليست بنفس الأهمية، ومع أناس لم تعد لهم نفس المكانة أو المرتبة في هذه المحطة المفصلية من حياتنا.

1xbet casino siteleri bahis siteleri