وَقَرِّي عينا..

وَقَرِّي عينا .. هذا كان الرد الإلهي على أمنا مريم العذراء أم المسيح عليهما السلام، حين عرفت بحملها وأجاءها المخاض إلى جذع النخلة حتى قالت: {يا ليتني متُّ قبل هذا وكنتُ نسيا منسيا}.

لم يتنزل الملاك من السماء ليحذرها من مغبة ذلك القول وتلك الأمنية، لم يقل لها إنك على حافة الكفر فاستغفري ربك وتوبي إليه حتى يهدأ بالك وتقبل توبتك، لم يعنفها أو يؤاخذها بما قالته، بل طمأنها وأراح قلبها فقال لها: كلي واشربي ولا يهمك رأي الناس، بل صومي عن كلامهم وسيكون لك الفرج والتيسير بعد صبرك هذا.

صورة إلهية عظيمة تحتاج منا وقفة عميقة للتدبر والتفكر فيها، حيث يعلمنا الله من خلال قصة أم المسيح كيف نتعامل مع الإنسان المُصاب في نفسه أو من ألمت به الخُطوب وأحاط بهم الاكتئاب كوحش ينتزع أرواحهم ويرزح على صدورهم كقطع الليل المظلم، والذي وصفه الكاتب الروسي دوستويفسكي قائلا: “إنه أبغض تجربة مررتُ بها على الإطلاق، إنه انعدام تصور الشعور بالسعادة مرة أخرى، وأيضًا غياب الأمل كليًا، إنه الشعور بالموت، إنه مُختلف تمامًا عن الشعور بالحُزن.”

والحقيقة أننا نواجه في هذه الفترة أشخاصا كثراً يعانون من مشاكل نفسية وأسرية واجتماعية عقدت من تركيبتهم الشخصية وعتمت على تفكيرهم فلم يعودوا يروا لذلك حلا سوى الموت تدفعهم رغبة الانتحار على أنها راحة لهم من عذابهم المستمر، لكننا لا نعرف كيف نتعامل معهم، لا نعرف ماذا نقدمه لهم، أو نقوم به من حلول لنجنبهم سقوطهم الكبير في شراك الكآبة والاستسلام محبة لهم وخوفا عليهم.

مقالات مرتبطة

فالحل الذي يقدمه الكثير في الغالب للتعامل مع ذوي النزعات الانتحارية الاكتئاب ليس حلا سليما يعالج سقمهم، بل يزيد الطين بلة، كتذكيرهم بالنار والجحيم وهم يقاسون قطعا من العذاب، أو تذكيرهم بأهمية الصلاة وقيام الليل كحل سحري تختفي كل مشاكلهم ومعاناتهم..علما أن العديد منهم قد تعطلت بوصلة إيمانهم أو فُقدت بالكامل.

طمأنة الله لأم المسيح عليهما السلام يعتبر مرجعا أصيلا في التعامل مع الناس ومصائبهم الكثيرة، فلا يهم رأي الآخرين وانتقاصهم وأذاهم… كل ما يهم هو تقديم الطمأنينة والعون والإنصات إليهم والوقوف بجانبهم وترغيبهم في الحياة لا ترهيبهم منها كأنهم اقترفوا ذنبا كبيرا والمعصية عظمى تستوجب التوبة والاستغفار متناسين قوله تعالى: {إن الله كان بكم رحيما}.

هذا الخطاب القرآني المطمئن سنجده في قصص الأنبياء الآخرين مثل سيدنا موسى وأخيه هارون عليهما السلام:  {قال لا تخافا إني معاكم أسمع وأرى}. ومع أم موسى: {ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين}. 

في مقولة هندية وجدتُ هذه الكلمات: “إن الأمهات امتداد إلهي وتجسيد للرحمة على هذه الأرض.. فأول ما يفعلنه إذا ما عاد أبناؤهن حزني إلى أحضانهن، تُطمئنَّ قلوبهم للتخفيف عنهم، وتقدمن لهم الطعام لتقوى نفوسهم..ثم تشجعنهم للنهوض مرة أخرى.” {فكلي واشربي وقري عينا}. 

1xbet casino siteleri bahis siteleri