وقعتُ في حب الجماعة

أتطرّق في هذا المقال إلى حُب من نوع آخر، تغمره التفاصيل الحقيقية والصادقة. إنّه حبٌ يرقى بوعينا ومبادئنا واهتماماتنا. نختار المشاركة فيه من أجل تطوير إنسانيتنا والسمو بجوهرنا فيزيدنا أنسنة وجوهرا. نأتيه بدافع أخلاقي خالص وخجول فيجعل منه نمط حياة وأسلوب تعامل ونشاطًا يهذب الذات ويُهدئُ من اضطرابها. يعلّمنا فنّ الاستماع، والتقبّل، والاندماج، والانصهار والتسليم لغرض أقوى وأنبل وأرقى. عن حب الجماعة أتكلّمُ.

يُعرّف المفكر الروحي البوسني علي عزت بيجوڤيتش الجماعة بالمجموعة الداخلية من الناس الذين اجتمعوا على أساس من الشعور بالانتماء. مبدئيا، عندما قرأتُ هذا السطر تزاحمت في ذهني مجموعة من الجماعات الأولية والثانوية والرسمية التي أنتمي إليها؛ فالعائلة جماعة والأسرة جماعة والأصدقاء والمدرسة والمسجد والنقابة المهنية والمدينة والوطن… كلها جماعاتٌ تليق بهذا التعريف. لما واصل بيجوڤيتش بأنّ الجماعة قائمة على المطالب الروحية والأشواق، بدأ ازدحام ذهني يخفّ وصارت صورة الجماعة التي يقصدها أوضح. في الجماعة يكون الناس إخوة تجمعهم أفكار واحدة كما تجمعهم الثقة وشعورهم بأنهم واحد. بعد أن قرأتُ هذه الجملة، انفضّت كل الجماعات من داخل ذهني وبقيت جماعة واحدة صامدة متربّعة، لا أجد لها اسمًا مُعينًا ولا أريد أن أقيّدها بلقب واحد. فهي وإن صحّ التعبير تارة بحر وتارة سماء وتارة أخرى أرض واسعة.

إنّ الجماعة روح دافئة تنبض في كل الاتجاهات بمشاعر الخير والألفة، تجدّد قلبها بالسعادة والرضى في أي فرصة متاحة، تحيا بالحب والعطاء والإحسان والإيثار، تحلّق عاليًا وتستنشق الهواء في سماء صافية نقية معزولة عن مجتمعنا الملوث، فتتساقط عطاياها على الأرض مثل الغيث المنتظر بعد سنوات طويلة من القحط، وتسقي البذور المنسية والمتناثرة على تُربة مؤمنة بأنّ المطر لا يخون وأن الغيم يزول وأن الكرب لا يطول ما دامت روح الجماعة موجودة. تزهر الأرض وتعمّ الثمار على كل من عليها. لا يبقى جائع ولا يبكي يتيم ولا تُقهر أرملة، لأنّ الجماعة وحدها هي التي تعرف العدالة وتبادل المعونة والتضامن والأخوة، كما يصفها بيجوڤيتش.

يشعرنا وجود الجماعة في المجتمع بأن النبيّ محمّد عليه الصلاة و السلام يعيش معنا، نتخيّله بعمامته ونتخيّل المدينة وترابها وناسها وأسواقها والمساجد. تملأ أسماعنا أقواله بأنّ المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، ولا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، وخير الناس أنفعهم للناس…تلفّنا الطمأنينة والسكينة والراحة وكأنّ الأيام كلّها أيام رمضان، حتى الفرحة الناتجة عن حب الجماعة تشبه فرحة العيد، كما لاستخدام نون الجماعة فيها طعم خاص مثل طعم دعاء سجدة خاشعة في ليلة مباركة.

الجماعة كيان مركبٌ من أعمدة ثابتة الوتاد ومنتصبة القامة وواثقة الخطوة. إنّها خلية متماسكة في عز الضمور والتفكك، تسعى إلى سدّ ثغرات المجتمع التائه والمنشغل بالمصلحة والوظيفة والإنتاج. تتقاطع فيها الطرق المختلفة بشكل يعزز وحدتها ويغني مواردها، في زمن تفترق فيه الطرق المشتركة. تحتضن شيئًا من اللين والرحمة والهدى والتقوى، وصفها يذكرنا بكلمات القرآن الموجّهة إلى الناس. يغلب عليها الاتساق والاندماج والانسجام مثل ماء الشلاّل. تتميز عن غيرها بتطابق النية، والإرادة، والعزم، والعمل والمنفعة. يوجد في المجتمع أعضاء منفردة تجتمع لتكوين جسم موحّد لإنجاز مصلحة معينة، بينما يوجد في الجماعة أجسام متنوعة تُختزل بآرائها وشواهدها ومناصبها وكل مادياتها ومميزاتها إلى عضو واحد، روح إنجيلية تنطق بكلمة واحدة وتعمل على هدف واحد. لا يوجد مجال للعراقيل الجانبية التي تُبطئ السير أو تحرّف الغاية. فقط تنتصر الأخلاق وينتشر الخير.

الجماعة كي تُعطي للخارج وتجود عليه بالحب تحتاج إلى أن تستمد الطاقة من باطنها، من روح الفريق المفعمة بالهمّة والتعاون والمعاضدة. هنا يتفوق حسّ الوحدة على طابع التوحّد وتُعطى الأولوية لسلامة الجماعة قبل الفرد. لا تؤثر ديناميّة الجماعة وجدّيتها في العمل على روحانيتها وترابطها. ما إن وُجد عمل أمام الجماعة إلا ونُفذ بإتقان وبأناقة لأن المحرّك في هذه الحالة هو الحب والمتحرّك هو الجوهر في غياب أي إلهاء خارجي من مصلحة أو اتجاه مادي.

تعطي الجماعات التي من هذا النوع توازنا للمجتمع وتنفخ فيه روحا إنسانية حيّة بدلًا من روحه الميتة المنهكة بين المؤسسات. إنّا في أمس الحاجة إلي تواجدها ويستلزم الوضع الحالي للعالم المحافظة عليها وتشجيعها. آمل أن أكون قد أعطيت ولو القليل من الحق لحب الجماعة وفضله على الأفراد والمجتمع، لأن المشاعر الصادقة والحقيقية يصعب ترجمتها إلى كلمات وإن اقتُنيت بعناية.

1xbet casino siteleri bahis siteleri