ولو على أنفسكم

0 3٬374
العدل خلق قويم يحفظ المجتمعات ويصونها من التفكك والهلاك، والإنصاف صفة راشدة تقي الأفراد من الظلم والميل، والقيام بالقسط فضيلة لا يستقيم المجتمع إلا بها، وشهادة الإنسان على نفسه ومعرفته أخطاءه والتراجع عنها علامة نضج ودليل وعي، والإسلام يدعونا إلى الإنصاف والقسط، ويحذرنا من الفجور والغدر والإجحاف وسوء الظن فقال تعالى: “وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ“. وبين القرآن الكريم أن الإنسان سيسأل عن موقفه، وسيحاسب على رأيه وشهادته “وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا ۚ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ۚ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ”.
إن العدل مطلوب من المسلم في الكلام والنقد والإدانة والتصريح والبيان والقضاء والمعاملات وسائر التصرفات، وهذا قد يكون أسهل على النفس يوم أن يكون الحق لها؛ لكن يوم أن يكون الحق عليها قد يحصل الخلل والتراجع، وربما يقع الظلم والجور، والأدهى والأمر يوم أن يصور الإنسان لنفسه أن ظلمه لغيره محض حق وعلامة عزة ودليل قوة؛ فيظلم الناس ويعتدي عليهم، وربما يعمم حكما على فئة ومنهم من لا علاقة له بما فعلوه.



ومع أن الإسلام قد حذر من هذا التطفيف، وشنع على هذا النوع من الازدواجية والكيل بمكيالين إلا أن التعصب الممقوت إذا اقترن به الفجور يوديان صاحبهما في مقتل، كيف لا والقرآن يدعونا إلى العدل حتى مع الظالم، وأن ننظر إلى قدر الخطأ لا إلى انتماء صاحبه، ويحذرنا من أن تؤثر علينا المواقف السابقة من الخصم في حكمنا عليه في قضية أخرى لا علاقة لها بمواقفه السابقة قال تعالى: “وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ “. وقال سبحانه: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ”.

 

ولقد سمى الله تعالى هؤلاء الأقوام الذين يعترفون بما لهم ويجحدون ما عليهم بالفجار “الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ“. وهؤلاء هم من يستوفون الحق يوم أن يكون لصالحهم، ويرفضونه يوم أن يكون على خلاف هواهم أو لصالح غيرهم، ممن يخالفهم في الدين أو المعتقد أو الفكرة أو الحزب، ويترجم لنا القرآن هذا الخلق ترجمة عملية في سورة النساء لما نزلت فيها آيات خالدات تبريء يهوديا من تهمة سرقة رماه بها أحد الأنصار وهو بريء منها؛ رغم بعد اليهود وعداوتهم للإسلام، وقرب الأنصار ووقوفهم مع الإسلام في أحلك الظروف إلا أن الكل في ميزان العدل سواء، والعدل الإلهي لا يحابي أحدا.

قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (106) وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) هَا أَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109).




أما النصح والنقد، وقول كلمة الحق، فلا ينبغي أن يصور الناقد المخالفة أكبر من حجمها، أو أن يعالج الداعية الخطأ بخطأ أكبر منه، أو أن ينكر المرشد المنكر بمنكر أكبر منه؛ لإن الإنصاف من شيم الأشراف، والعدل مطلوب في الغضب والرضا، وكم سببت ردود الأفعال العكسية والمواقف المتشنجة من بعض القضايا إلى فساد ذات البين، وشرخ النسيج المجتمعي، وظهور الفرق وتمزق الأمة، ولا يعنى هذا ترك النقد والصمت عن قول الحق بقدر ما يعني التزام أدب النقد وترك الفجور في الخصومة، والتحرر من شهوة الانتقام، وتضخيم الذات على حساب الغير، والتفريق بين حرية التعبير وبين خطورة التشهير والتكفير.

وقد يقوى النزاع في بعض الأحيان ويشتد الخصام، وتعلوا الصرخات بين المختلفين على مسائل لا تستحق كل هذا الشجار والنزاع، وربما أنها من مسائل الخلاف الظنية التي يعذر فيها بعضهم بعضا، أو يناقش بعضهم البعض الآخر من باب “رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب” ولو أنهم فكروا في مآلات خلافهم، ونتائج مهاتراتهم لعلموا أنهم قد جانبوا الصواب وتجاوزوا العدل، وعالجوا ما ظنوه خطأ بخطأ أكبر منه، وتعاملوا مع ما توهموه مخالفة بمخالفة أعظم منها خلخلت عرى المجتمع وزلزلت روابطه.

وقد يشتد الخلاف في بعض الأحيان، ولا يعرف المختلفين محل النزاع، ولا نقطة الخلاف، ولو حكموا عقولهم لوجدوا أنفسهم -ربما-على رأي واحد، وأن السب في ذلك إما سوء فهم من أحدهما أو سوء تعبير من الآخر؛ لكن سوء الظن وعدم التريث، والاستعجال في الحكم قبل البحث عن نقاط الاتفاق أوقعهم في فخ النزاع وشرك الشقاق من حيث لا يشعرون.

 

والأخطر من ذلك، من تشكلت عندهم قناعات سلبية حول أفراد أو جماعات بسبب موقف أو مواقف؛ وبالتالي ذهبوا يفتشون عن أخطائهم، ويترصدون عثراتهم، وينسفون كل ما يصدر عنهم، ويحملون كلامهم ما لا يحتمل، وفرغوا أنفسهم لهم وكأن الله ما خلقهم إلا لذلك، والمشكلة أن هذه القناعة الخاطئة حول فرد أو جماعة تجعل صاحبها في أكثر الأحيان يصدق ما يقال عن مخالفيه، ويشاع ضدهم من دون تبين وتثبت.




ومع مرور الزمن قد تتطور هذه القناعة، ويزين شياطين الإنس والجن وهوى النفس لصاحبهما أن الواجب عليه التحذير من خطر مخالفه وفضحه أمام المجتمع؛ ليأمنوا من شره ويحذروا من خطره، وتستجيب شهوة الانتقام وقد تتطور إلى الاتهام بالكفر والزندقة والخروج من الملة، ويستغلون من حيث لا يشعرون في شق النسيج الاجتماعي، ونسف روابط الإخاء، وربما استباحة دم المخالف ويحسبون أنهم يحسنون صنعا. وسبب كل هذا إما الاستعجال في الحكم، أو قناعة سلبية لربما بنيت على شفا جرف هار ظن صاحبها أنه يقوم بواجب الدفاع عن الدين وحماية حمى الإسلام، فزلزل البناء وأنكى الجراح.

والواجب أن ندرك أهمية العدل والإنصاف، وأنه من أسباب الرقي “وأساس العمران” كما يشير إلى ذلك ابن خلدون في مقدمته.. كما ينبغي أن نتنبه لخطر الظلم والفجور، وأن نتمرس الشجاعة التي يشهد الإنسان بها على نفسه قبل الشهادة على غيره، وأن يتعلم نقد نفسه إذا أخطأ، وأن يكون نقدنا لغيرنا بالقدر الذي يقرب ولا يبعد، ويجمع ولا يفرق، بلا فجور، ولا اتهام، ولا تشويه، ولا خصام، وأن نتحرر من حب الذات وعلو النفس، ونتمرن على طول النفس، ونستعد في حال تبين لنا خلاف ما نقول للتراجع والاعتذار فبهذا يعم العدل والإنصاف ويخف الشقاق والخلاف.




1xbet casino siteleri bahis siteleri