عقلي وقلبي!

907

لدينا أوهام معاصرة عن معارك لم تحدث حقا بين العقل والإيمان، أو بين العقل والقلب.
يقولون مثلا إن العقل من كوكب المريخ، وأن القلب من كوكب زهرة، لكن الحقيقة تقع في مكان آخر تماما.

فلنتخيل الآن توأمين ملتصقين ببعضهما، ثمة رأس واحد وقلب واحد بجسدين. القلب في الجسد الذي بلا رأس، وأي محاولة لفصل التوأمين ستؤدي إلى موتهما معا. التوأمان يحتاجان إلى الرأس أي “العقل” ويحتاجان أيضا إلى القلب، وأي محاولة لفصلهما ستؤدي إلى موت الإثنين. هذه هي العلاقة حقا بين العقل والقلب: علاقة تكامل، توافق وتلاءم، وليس علاقة تنافر.

الإيمان، له عنوانان وليس عنوانا واحدا. هو يعمل في العقل، ثم يذهب ليستريح في القلب. هناك من يعتبر أن القلب موضع حصري للإيمان، ويعتبر العقل موضعا للتشكيك والأفكار الهدامة. بل  هناك من يتهم “بالعقلانية”، ويقصد بذلك أنه يريد أن يشكك بثوابت الدين. فالعقلانية بالنسبة للبعض صارت مرادفة للتشكيك.

كيف وصلنا إلى هذا؟ والإسلام هو أكثر الأديان قربا من العقل؟ القصة طويلة ومؤسفة.

مرتان فقط في القرآن الكريم تم تعليل نزول القرآن، بمعنى تم ربط نزوله بكلمة “لعل”. المرة الأولى كانت في سورة يوسف، بقول: “لعلكم تعقلون“، والربط هنا كان بالعقل. والمرة الثانية كانت في سورة طه، بقول: “لعلهم يتقون“، والربط هنا كان بالتقوى، مرتان فقط، مرة بالعقل ومرة بالتقوى.

تخيلوا اليوم، لو أن هناك من تكلم عن التقوى فاتُهم بأنه يبث الأفكار الهدامة، التي تمس ثوابت الإسلام. لن يحدث هذا مع التقوى، لكنه سيحدث مع العقل. رغم أن العقل والتقوى مرتبطان في القرآن الكريم بنزول القرآن. كيف إذن نشأ هذا التصور؟ نتج عنه تناقض بين العقل والإيمان.

كان يا ما كان، في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية، نشأ جدل مترف بين من يقول إن العقل مقدم على النقل (النص الديني) أو النص الديني مقدم على العقل. والحقيقة أن الأمر لا هذا ولا ذاك، فعلاقة التقديم والتأخير هذه غير ممكنة، لأن العلاقة بينهما مثل العلاقة بين التوأمين اللذين تحدثنا عنهما.

مقالات مرتبطة

مبدئيا، لا يمكن لغير عاقل أن يفهم النص. غير العاقل لن يفهم أي شيء. العقل أصلا كأي آلة أو أداة، يحتاج إلى كتيب إرشادات الإستعمال. كل من يحاول أن يُقصي العقل من العلاقة بالإيمان، يقوم بقتل الإيمان دون أن يدري. كأي محاولة لفصل التوأمين من بعضهما، والتي ستؤدي إلى موتهما معا. ورغم كل منجزات العقل، فإن علينا الإعتراف بوجود حدود له، هذه الحدود لا تعني قصورا على الإطلاق. بالتأكيد هو لم يخلق إلا لما يعمل فيه، فالمذياع الصغير مثلا، لا يستقبل بث القنوات الفضائية. ليس لقصور فيه، بل لأنه لم يصمم لذلك. فكذلك العقل، لم يصمم للدخول في الإلهيات، أي في تخيل الله عز وجل، فذلك هي حدوده!

في ركوعنا كل يوم، نقول “سبحان ربي العظيم“. الركوع هو نزول الرأس، والرأس يضم العقل، وسبحان ربي العظيم هي الإشارة لما لا يمكن تصوره بالعقل. والعظيم بلسان العرب، هو الذي لا يمكن تصوره بالعقل. نحن نعلن خضوع العقل لله، فالعقل أمام الإلهيات يرفع الراية البيضاء، بينما في مجال العلوم الطبيعية يرفع راية النصر، فتلك هي منجزاته وحدوده.

في الأمثال الشعبية، ثمة مثل رائج سائد في كل اللهجات المختلفة: “الله ما شافوه بالعين عرفوه بالعقل“، وهذا هو دور العقل. دوره هو التعرف على عظمة الخالق في مخلوقاته وفي الطبيعة. العقل رأى الخالق في عظمة الطبيعة، في لحظة الشروق، في حضور البحر، في الطفل لحظة ولادته. هو حاضر في قلبك يدق منذ أن ولدت حتى الآن، في المشاعر التي تتسلل إلى قلبك فتنير حياتك، في قدرتك على تحدي المستحيل. عقلك يراه وقلبك يصدق بذلك ويقول “نعم”.

نعيش في حياتنا الكثير من الصراعات. فأحيانا تميل عواطفنا إلى جهة، ويميل عقلنا إلى جهة أخرى. في قرارة أنفسنا نعلم أن عقلنا هو الصائب، لكن “القلب وما يهوى”. هذا الصراع معروف، فأحيانا ثمة سوء فهم بين العقل والقلب، وربما يحتاجان معا إلى الدخول في دورة لتنمية مهارات التواصل بينهما؟ هذه الدورة ليست في فندق فخم بتكلفة باهظة، بل في ذلك الكتاب (القرآن الكريم) الذي لم يفرق بين العقل والقلب. عندما تتعامل مع هذا الكتاب على هذا الأساس، ستجد قلبك يميل إلى شيء ويقول “نعم” وتجد عقلك يرد عليه وهو يقول أيضا “بالتأكيد نعم”.

 

عن سلسلة “لا نأسف على الإزعاج” للدكتور أحمد خيري العمري.

تفريغ: أحلام مودني

تدقيق لغوي: آيت الله هيدور

 

1xbet casino siteleri bahis siteleri